بدأت تظهر في الآونة الأخيرة على الساحة النضالية لالمعطلين أساليب نضالية جديدة تذكرنا بما اخترعه اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية حين كانوا يلقون بطائراتهم على سفن الحلفاء فيما يعرف بظاهرة الكاميكاز، وتذكرنا بالعمليات الاستشهادية للمقاومة في فلسطين وفي العراق، والعمليات الانتحارية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة التي يصنفها البعض في إطار العمليات الإرهابية بينما يدخلها البعض في عمليات مقاومة الاستكبار العالمي. لا نريد أن ندخل من خلال هذه المقدمة في جدل حول ماهية الحد الفاصل بين العمليات الإرهابية والعمليات الاستشهادية ونؤكد أن هناك من يسعى إلى الإساءة إلى المقاومة المشروعة في فلسطين من خلال وصفها بالعمليات الإرهابية استنادا على التشابه في الأسلوب بين هذين الصنفين. وبغض النظر عن الفارق بين الحالتين والمقامين وأنه لا قياس مع وجود الفارق، وبغض النظر أيضا عن كون كثير من العمليات التي تستهدف المواطنين الأبرياء لا يمكن إلا أن توصف بكونها عمليات إرهابية، فإن ما يستوقفنا في هذا الأسلوب في الحالتين هو أن من يلجؤون إليه يفعلون ذلك نظرا لشعورهم باختلال موازين القوى في ميدان المواجهة المدنية السياسية أو في مجال المواجهة العسكرية. اختلال ميزان القوى فالعمليات الاستشهادية والعمليات الإرهابية يجمع بينهما قاسم مشترك هو أن الطرف الضعيف أو المستضعف يسعى إلى أن يبحث عن مصدر قوة جديدة لا يقدر الطرف القوي أو المستقوي أن يتنبأ بها أو أن يتحسسها ناهيك عن أن يواجهها لأنها خارجة عن منطق التدافع السياسي أو العسكري المتعارف عليه بين طرفين متكافئين أو قريبين من التكافؤ. في مثل العمليات المشار إليها سالفا يتحول ضعف الضعيف إلى قوة لا قبل للمستكبر بمواجهتها بل إن قوة القوي تتحول إلى نقطة ضعف كما هو الشأن مثلا حينما تلجأ بعض قوى التحرر إلى حرب العصابات أو إلى العمليات الاستشهادية . وفي هذه الحالة أي حينما تستخدم العمليات الاستشهادية أو الإلقاء بالنفس على العدو رغم تيقن تحقيق الهلكة بنسبة كبيرة تربو على نسبة احتمال النجاة من الموت فإن المقاومين يدخلون عنصرا جديدا من أجل ضبط ميزان القوى المختل لفائدتهم نسبيا وربما انتصروا كما حدث في حرب فيتنام مثلا وفي الحروب التحررية التي قادتها شعوب مستضعفة من العالم الثالث وذلك حينما أصبحت القوى الاستعمارية ترى أن مقدار ما أصبحت تقدمه من الخسارات يربو على ما تحققه من المصالح، فسلكت سبيلا آخر للمحافظة على مصالحها من خلال مفاوضات انتهت إلى استقلال سياسي للبلدان المستعمرة دون أن ينهي ذلك حالة التبعية ودون أن يؤدي ذلك إلى فقدان المصالح المذكورة أو قسط كبير منها على الأقل . ونفس الشيء يمكن تأكيده في لجوء البعض إلى الانتحار كأسلوب من النضال. إننا نجد أنفسنا هنا مع التأكيد من جديد أنه لا قياس مع وجود الفارق أمام اختلال ميزان القوى ولكن هذه المرة بين المعطلين وهيئاتهم التمثيلية التي يناضلون داخلها وبين الطرف الحكومي الذي تعتبر مسؤوليته قائمة في النازلة من أوجه شتى كما سنبين ، إلى الحد الذي أدى بهم إلى ابداع مثل هذه الاشكال النضالية التي لا يمكن للمرء إلا أن يتأسف على اضطرارهم اللجوء إليها. وإذا كان اللجوء إلى العمليات الاستشهادية في حروب التحرير والمقاومة ضد المستعمرين وقواتهم أمرا مشروعا بمقتضى جميع الشرائع السماوية والمواثيق الدولية باعتبارها ردا للعدوان ووسيلة لاسترداد الحقوق المغتصبة ، وكان استخدام العنف في حق الآمنيين المدنيين والمعاهدين المسالمين عدوانا وظلما، وكان الاشتباك فيه مع العدو مع تيقن الهلكة بطولة وفداء محمودين يستحق عليه صاحبها من شعبه التبجيل والتكريم، فإن اللجوء إلى أساليب نضالية تكون نهايتها إهلاك النفس وإزهاقها من أجل نيل حقوق اجتماعية، أو تكون هي إزهاق النفس بداية من خلال إلقاء النفس من أعلى البنيات أو اللجوء إلى حرق الذات أو الإضراب اللامحدود عن الطعام الذي ينتهي إلى الموت أو إلى إحداث عاهات مستديمة، أمر فيه نظر من زاوية النظر الشرعي والنظر العقلي معا . ذلك أنه إذا كانت مصلحة الأوطان والأديان وكان حفظهما لا يتأتى إلا من خلال القتال والقتل وهو بالمناسبة أمر مكروه في الفطرة الإنسانية كما قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم ،وكان القتال في هذه الحالة ليس إهلاكا للنفوس بل هو إحياء لها بإزالة أسباب الدمار والقتل والفساد في الأرض ، وكل هذه الأوصاف موجودة في الاستعمار، إذا كان ذلك موجبا شرعيا يجيز بل قد يوجب إزهاق النفس ، فإن قياس مصلحة الوطن والدين ومصلحة المجتمع بأكمله ومصلحة الأمة بل مصلحة الإنسانية التي تتحقق بالمقاومة ،على المصالح التي تضيع بسبب بطالة هذه الفئة وعدم تشغيلها أمر فيه نظر . فالأمر هنا يتعلق بكلية من كليات الشريعة وهي حفظ المال ، ونحن نقولها تجوزا لأن الأمر هنا لا يتعلق بنضال دون المال أي المال المكتسب في مواجهة جهة باغية أو ظالمة تريد أن تصادر المال المذكور دون حق ، وإنما الأمر يتعلق بمطالبة بحق في الشغل أصبح اليوم موضع جدل ، هل هذا الحق يعني الحق في التشغيل أي التشغيل في الوظيفة العمومية أم يعني عدم وضع حواجز أو تمييزات لأي سبب من الأسباب جنسا كان أم لونا أم دينا أم انتماء عرقيا أو لغويا أو غير ذلك من أشكال التمييز الأخرى ؟. وعليه فإن من الواضح أنه ليس من الشرع ولا من العقل إزهاق النفس من أجل معاناة اجتماعية أو ظلم حكومي ،إذ أن الأمر هنا احتجاج من أجل تحسين ظروف الحياة من خلال إزهاق الحياة المذكورة أصلا ، كما أننا نجد أنفسنا أمام عدم تناسب بين حجم المصلحة المرجو تحقيقها والمفسدة المؤكد تحقيقها من خلال الانتحار أو من خلال إصابة النفس بعاهة مستديمة. مسؤولية الحكومة غير أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا تبرئة الحكومات وسياساتها المتعاقبة . فالسياسات الحكومية المتعاقبة مسؤولة أولا بسياساتها الاقتصادية والاجتماعية المتعاقبة التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة من التأزم الاجتماعي و وصول تلك الفئات من المعطلين إلى هذه الدرجة من اليأس والإحباط وهي مسؤولة ثانيا بسبب الطريقة التي دبرت بها قضية المعطلين من خلال توظيف بعض الفئات السابقة من المعطلين ووعود بالتوظيف وتوصيات بتوظيف فئات أخرى، مما أدخل الحكومات إلى مأزق حقيقي صنعته بيدها مرتين: ?المرة الأولى بسياساتها الاجتماعية والاقتصادية الفاشلة التي أنتجت ترديا في الأوضاع وأنتجت بطالة حاملي الشهادات والمرة الثانية بسلوكها طريق التوظيف العشوائي ودون مراعاة الحاجيات والإمكانيات الحقيقية للإدارة تحت ضغط الحركات الاحتجاجية وصنعته ثالثا بغياب الشفافية في مجال التوظيف وسيادة المحسوبية والزبونية وعوامل القرابة الحزبية مما يعانيه المعطلون يوميا ويلمسونه من خلال اختفاء مناضلين من داخل صفوفهم ومغادرتهم للمعتصمات إلى الإدارات بطرق مشبوهة. لكن طريقة تغيير هذه الاختلالات هو النضال السياسي والنضال الاجتماعي النقابي والنضال المدني ، والانخراط في التنظيمات السياسية والنقابية والمدنية وإصلاحها إن كانت فاسدة ، دون إنكار حق الفئات المتضررة أن تنتظم في أي شكل تراه من أجل المطالبة بحقوقها الفئوية ، لكن وجب التأكيد أن النضال السياسي والنقابي والمدني هو نضال اشمل وأشرف لأنه نضال من الوطن كله بجميع فئاته ونضال من أجل الفئات المتضررة بجميع أجيالها وطبقاتها وليس نضال من أجل فوج سرعان ما يغادر ساحة النضال إذا تحقق مطلبه بالتوظيف كي يجلس على منصة المتفرج المستفيد. المؤمن لا ييأس من روح الله لكن إبرازالمسؤولية المذكورة والتأكيد عليها لا يبرر بأي شكل من الأشكال لا بمقاييس الشرع ولا بمقاييس العقل اللجوء إلى هذا الأسلوب أي إلى أسلوب قتل النفس والانتحار مادام حفظ النفس مقدم على حفظ المال. فمهما بلغت المظالم الاجتماعية في حق هذه الفئة فإنها لن تصل إلى حد مفسدة إزهاق الروح وقتل النفس أو إصابتها بإعاقات مستديمة لا ينفع معها الوظيف إذا جاء ولن تنفع معها أموال الدنيا جميعها لو اجتمعت. هذه كلمة وجهة نظر قد لا تروق كثيرا من المعنيين سواء من الحكوميين أومن المعتصمين . لكن لابد من الصدع بها عسى أن تؤوب الحكومة إلى رشدها وعسى أن يقدر المعطلون والمعتصمون بأنه لا يجوز تحت أي مسوغ الوصول إلى هذه الدرجة من النضال لأنها ببساطة تعني اليأس والمؤمن لا ييأس من روح الله التي هي مقصد أو كلية من كليات الشريعة فلا يكون هناك إشكال أو غبار في الأمر.