ليس جديداً القول إن مؤتمر القاهرة قد عقد بموافقة الولاياتالمتحدة، وقد تسرب من أروقته أنه حين وقع الخلاف الشديد بشأن جدولة انسحاب القوات الأمريكية اتصل ممثلو التحالف الشيعي بالأميركيين فجاء الرد بالموافقة، والسبب هو أن جوهر ما يريدونه من المؤتمر إنما يتمثل في تشريع العملية السياسية وإدماج العرب السنة بالكامل فيها، وبالطبع على مشارف الانتخابات التي ستجري منتصف الشهر الجاري. لا يعني ذلك أن المؤتمر قد حمل عناصر إيجابية بالنسبة للعرب السنة أو المقاومة، إذ أن كل عبارة إيجابية في بيانه الختامي قد أتبعت بنقيضها كما هو حال النص على وحدة العراق وجدولة الانسحاب، فضلاً عن الاعتراف الموارب بشرعية المقاومة، لكننا نشير إلى الهدف الرئيسي من البيان ممثلاً في تشريع العملية السياسية على أمل الحصول على نتائج مناسبة في الانتخابات، إلى جانب محاولة إقناع بعض قوى المقاومة بدخولها، وأقله القبول بها أو السكوت عنها، وصولاً إلى عزل "جماعة القاعدة" ووقف مسار العنف برمته؛ إذا لم يكن بالسياسة فمن خلال تجريد قوى المقاومة من فضائها الشعبي ومن ثم القضاء عليها، أو تحجيمها إلى مستوىً يمكن احتماله إلى حين. في المسار السياسي يبدو واضحاً من قراءة تطورات الحملة الانتخابية والترتيبات السابقة منذ محطة الاستفتاء على الدستور إلى الآن، أن الأمريكيين يعولون بل يعملون على الدفع باتجاه سيناريو معين في تلك الانتخابات، وأنهم لن يتركوها لحراكها الطبيعي، تماماً كما فعلوا في المرة الماضية وإن كان نصيبهم فيها الفشل. في الانتخابات الماضية قدم الأميركيون ما يصل إلى أربعين مليون دولار كدعم لحملة إياد علاوي الانتخابية، فيما تسامحوا على نحو لافت مع التزوير، لاسيما في مناطق الأكراد، الأمر الذي كشفه كاتب التحقيقات الأميركي الشهير سيمور هرش في مجلة "نيويوركر" بعد أسابيع من الانتخابات. في الانتخابات الحالية سيتكرر نفس السيناريو الذي اعتمد في المرة الماضية، ذلك أن السفير أو الحاكم "الذكي" زلماي خليل زاد لن يقف مكتوف الأيدي أمام الحراك السياسي الذي ستفرزه الانتخابات، بل سيتدخل على نحو مباشر على أمل التأثير فيها. ما يمكن أن نقرأه في هذا السياق هو أن الأميركيين سيعولون على حصول إياد علاوي ومعه تحالف الأكراد، إلى جانب العرب السنة، لاسيما جبهة التوافق (المؤتمر العام لأهل السنة، الحزب الإسلامي، مجلس الحوار)، إضافة إلى مجموعات أخرى ليست على وفاق مع الحكيم والجعفري، على ما يزيد عن نصف مقاعد الجمعية الوطنية، وهي صيغة يمكنها أن تعيد علاوي (العلماني) المقرب من الأميركيين إلى رئاسة الحكومة، فيما تحجم بشكل من الأِشكال التحالف الشيعي المقرب من إيران. هذه اللعبة جرى التمهيد لها بالسماح لعلاوي بتصعيد لهجته ضد الجعفري، حتى لو انطوت تصريحاته على إساءة للأمريكيين، كما في قوله إن وضع حقوق الإنسان بات أسوأ مما كان عليه أيام صدام حسين، فضلاً عن تعويله على اللعب على هواجس الجمهور العام بشأن الخدمات التي عجزت حكومة الجعفري عن توفيرها. من جانب آخر جرى التمهيد لها بمنح المحافظات الكردية حصة أكبر من حقها الطبيعي في عدد المقاعد بناءً على القانون الجديد، مع أن حق المحافظات الشيعية لم يهضم، بل ربما كان جيداً قياساً بما جرى للمحافظات العربية السنية التي استهدفت على نحو لافت، من دون أن يتجرأ المعولون على الانتخابات في هذه الفئة على الجهر بالشكوى فضلاً عن الاحتجاج. بالمقابل يبدو أن التحالف الشيعي قد أخذ يستشعر الخطر الكامن في الانتخابات وذلك بتركيزه الهجوم على إياد علاوي من جهة، وبمحاولة استعادة دعم السيستاني، الأمر الذي حدث على نحو غير مباشر إلى الآن، وإن حصلوا على دعم المراجع الكبار الآخرين في النجف، فيما لا يستبعد أن تدخر تصريحات الدعم المباشرة من طرف السيستاني للأيام أو الساعات الأخيرة. هكذا يعول الأميركيون على وضع الحكومة بيد مجموعة أقرب إليهم من حلفاء إيران، فيما يأملون أن يؤدي ذلك إلى التقليل من مخاوف العرب السنة من الحكومة الطائفية، الأمر الذي قد يبعدهم عن مسار المقاومة، وإذا تذكرنا ما يجري على هذا المسار من محاولات استقطاب وشق صفوف وفرز بين معتدلين ومتطرفين، فسيغدو البرنامج الأميركي أكثر وضوحاً، وهو ذاته البرنامج الذي أعلن عنه جورج بوش، والذي ينطوي بشكل أساسي على مسار سياسي وآخر أمني يتمثل في تعزيز القدرات الأمنية العراقية على نحو يمنحها القدرة على مواجهة التمرد، ويوفر للقوات الأميركية فرصة الخروج من مواقع المدن إلى قواعد عسكرية خارجها يمكنها التحكم بالوضع من خلالها. من الصعب الجزم بمآل هذا المخطط من الناحية السياسية، إذ أن فوز التحالف الذي أشرنا إليه في الانتخابات على نحو يؤهله لتشكيل حكومة بزعامة إياد علاوي لا يرى فيها العرب السنة تلك النكهة الطائفية التي لمسوها في الحكومة الحالية، مثل هذا الفوز لا يبدو مضموناً لاسيما إذا تمكن التحالف الشيعي من لملمة صفوفه على نحو قوي في اللحظات الأخيرة بدعم من السيد السيستاني، وبالطبع في ظل مشاركة التيار الصدري الفاعلة وتجييش الشارع على نحو طائفي من جهة، وعلى نحو يستثمر المخاوف من عودة البعثيين تحت عباءة إياد علاوي الذي تشن عليه حملة تجعله نسخة أخرى صدام حسين، فيما توصف قائمته بأنها قائمة "بعثيون". يشار هنا إلى أن جبهة التوافق العربية السنية بزعامة الحزب الإسلامي ستكون سعيدة بالمشاركة في حكومة يتزعمها إياد علاوي، ويكون الطالباني أحد أعمدتها، لاسيما وهذا الأخير هو المتخصص في التنسيق مع جماعة الحزب، وهو الذي ورطهم في لعبة دعم الدستور، واعداً إياهم بالمشاركة الفاعلة في الحكومة القادمة وبتغيير النص على الفيدرالية العامة بعد الفوز في الانتخابات، وبالطبع ضمن الرؤية التي استندنا إليها في السطور السابقة بحسب أرجح التقديرات. من الصعب بالطبع استبعاد مشاركة التحالف الشيعي في حكومة يرأسها إياد علاوي إذا عرض عليه ذلك تبعاً لقدرة هذا الأخير على تشكيل حكومة من دونهم، فما حققوه خلال العام الماضي من حضور في الوزارات والأجهزة الأمنية لا يمكن التفريط به بسهولة، ولا بد من مشاركة تحميه من تغول القادمين الجدد إلى السلطة. بالنسبة للمسار الأمني بعد الانتخابات، فإن من غير المتوقع أن ينجح التعويل الأمريكي على إبعاد العرب السنة عن المقاومة بعد الانتخابات، ذلك أن الصيغة الجديدة لن تغير من واقع الاحتلال، حتى لو نجحت في التخفيف من حدة التهميش والاستهداف الطائفي، والسبب هو أن ما تطرحه المقاومة لم يكن مرتبطاً بقضية التهميش، أما الاستهداف الطائفي فقد كان في شق أساسي منه رداً على المقاومة وتبنيها من قبل المناطق العربية السنية وليس مقصوداً لذاته. أما إذا كان نجاح التحالف الجديد محطة باتجاه خروج القوات الأمريكية بعد توفير صيغة تحفظ بعض ماء الوجه، فسيكون ذلك معقولاً إلى حد كبير، لاسيما وأن الإنجاز سيعود إليها. ألم تكن هي التي فرضت مسار الديمقراطية على الأمريكيين من الأصل، وهم الذين كانوا يفكرون في صيغة انتداب قد تمتد لبضع سنين؟! لاشيء إذن يمكنه الحيلولة دون فشل مشروع الاحتلال كما خطط له المحافظون الجدد، لكن الفشل يبقى متعدد المستويات، إذ يمكن أن يتمدد ليصل حدود الهزيمة كما يمكن أن يتجاوزها!!