(وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتّخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قالوا ادْعُ لنا ربك يبيّن لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكْر عوانٌ بين ذلك فافعلوا ما تُؤمرون. قالوا ادْعُ لك ربك يُبيّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها تسر الناظرين. قالوا ادْعُ ربك يُبيّنْ لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمُهْتدون. قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مُسَلّمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون. وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها والله مخرجٌ ما كنتم تكتمون. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون). في هذه الآيات السابعة والستين من سورة البقرة وما بعدها إلى الآيتين 27 و37 جاء الحديث عن قصتين من تاريخ بني إسرائيل. أولاهما أمْر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة. وثانيتهما قصة القتيل الذي لم يُعرف قاتله وتفرق بنو إسرائيل جماعات يتّهم بعضُها البعض الآخر بقتله، فأمر الله موسى أن يبلغهم أن عليهم أن يضربوا القتيل بجزء من البقرة التي أمرهم بذبحها ليحيى القتيل بذلك ويدلهم هو نفسه على قاتله. وفعلا تم ذلك وعاش القتيل وسمى القاتل ثم مات. وكانت هذه معجزة لموسى منحها الله له وتميز بها عن سائر الرسل. هكذا قرأ بعض المفسرين هذه الآيات على أنها قصتان، بينما قرأها مفسرون آخرون على أنها قصة واحدة : قصة قتيل تفرّق بنو إسرائيل على تعيين قاتله وانتهى الخلاف بإحياء الله القتيل وكشفه عن اسم قاتله. وكان ذلك نهاية تفرق بني إسرائيل بشأن هذه النازلة. وهذه القراءة هي قراءتي التي أطمئن إليها لاقتناعي بأن سبك الآيات كما هي عليه يستبعد أن يكون الأمر يتعلق بقصتين. لكن يبقى مع ذلك أن يأتي الحديث عن قصة القتيل بعد الحديث عن ذبح البقرة، بينما لو كان الأمر يتعلق بقصة واحدة لكان البدء بقضية القتيل تليها قصة ذبح البقرة. بيد أن هذا الإشكال يسقط إذا ما عرفنا أن ترتيب الآيات في المصحف لم يعتمد على ترتيب نزولها، بل تم باجتهاد من بعض الصحابة ما يعني أن آية: {وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها} قد تكون نزلت قبل آية. {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}. وقصة القتيل واكتشاف هُوية قاتله بضرب جثته ببعض جسم البقرة وردت في المصادر الإسرائيلية ويعرفها أحبار اليهود، وأشارت إليها التوراة في السفر الرابع (سفر التشريع الثاني) في الإصحاح 12. وجاء في ذلك : أنه إذا قُتل شخص ولم يُعرف قاتله فمن أقرب القُرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويُخرجون معهم بقرة لم يُحرث عليها ولم تنجُر بالنّير فيأتون بها إلى واد يغطيه الماء لم يُحرث ولم يُزرع ويقطعون عنقها ويتقدمهم الكهنة من بني لاوى فيغسل شيوخ القرية أيديهم على عِجْلة البقرة في الوادي ويقولون لِمَ سفكتْ أيدينا هذا الدم، ولِمَ لمْ نُبصره بأعيننا فيُغفر لهم الدم المسفوك. كما جاء في المصادر اليهودية أنه بعد ذبح البقرة أمر الله بني إسرائيل أن يضربوا القتيل ببعضها، وأن هذا الأمر الإلهي اصبح تشريعا ملزما لليهود عليهم أن ينفذوه كلما جُهل القاتل. ***** {قالوا أتتّخذنا هزؤا}: عندما قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة استغربوا وتساءلوا لماذا جاء هذا الأمر من إله موسى ؟ وما سببه ؟ وظنوا أن موسى يسخر منهم ويستهزئ بهم. ولم يصدقوا قوله إن الله هو الذي يأمر بني إسرائيل بذبح البقرة. وقال كبارهم لموسى: هل جعلتَ منا أهزوءة (أضحوكة) تتلهّى وتتسلّى بها بتبليغك هذا الأمر الغريب لنا؟ وربما شكوا في صدق موسى وتوهموا أنه هو الذي أمرهم بذبح البقرة ونسب الأمر لله. وقد يكون موسى اكتفى بتليغ الأمر الإلهي دون أن يشرح لقومه دواعيه ومقتضياته، فانطلقوا يطرحون الأسئلة عن البقرة المأمور بذبحها ما هي وما لونها، ولماذا يجب ذبحها ؟ ولأي غاية يأمر الله بذبحها؟ وجاءت الأجوبة على جميع الأسئلة واضحة ودقيقة لم يبق معها لبني إسرائيل أية ذريعة للتقاعس عن تنفيذ الأمر الإلهي. ***** {أتتخذنا هُزُؤا}: الهزء (بضم الهاء والزاي) (أو بسكون الزاي) (على وزن فُعُل، وفُعل) هو الاستهزاء والاستخفاف بالمستهزَئ به (بفتح الزاي اسم مفعول). وعبارة أتتّخذنا هُزؤا أبلغ دلالة من عبارة أتستهزئ بنا ؟ فاستِعارتها تعني أوَصَل بك الاستخفاف بنا إلى حد أنك تجعل منا أهزوءة تلعب بعقولنا وتستبلدنا؟ ورد عليهم موسى قائلا :{أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} ألجأ إلى حمى الله أن أفعل ما توهمتوه عني. أتبرأ من هذه التهمة التي نسبْتموها إلي. فأنا نبي رسول يعلمني ربي ويوحي إلي بما أقول لكم، ولست من صنف الجاهلين الذين يقولون جزافا ما تفوه به ألسنتهم. وسؤال أتتخذنا هزؤا يحتمل أن يكون استفهاما حقيقيا انتظر بنو إسرائيل من موسى الجواب عليه بالنفي أو الإثبات، كما يحتمل أن يكون استفهاما استنكاريا استنكروا به على موسى أن يجعل منهم أضحوكة يتسلّى بها. أما جواب موسى فكان تذكيرا لهم بمهمة موسى المقدسة التي اختاره الله للقيام بها: مهمة جادة لا يتدنّى من يقوم بها إلى أن يتخذ ممن يدعوهم إلى الاستجابة أهزوءة، لأن الأنبياء المرسلين هم طبقة مختارة عالمة واعية بواجباتها. وهي تنشر الرسالة بعزم وإصرار وتحمل وصبر. وبهذا الجواب أرجع موسى كبار قومه إلى جادة الصواب وأفسح لهم المجال ليسألوه عما شاءوا وما يخفى عليهم في الأمر الإلهي الذي فوجئوا به وكان موضوع استغرابهم. وكان السؤال الأول ما هي هذه البقرة؟ ***** {قالوا ادعُ لنا ربك يبينْ لنا ما هي}. أي صنف من أصناف البقر هي ؟ ولم يأت السؤال في صيغة الجحود والكفر بالله، بل صيغ الأمر فيه (ادع لنا) بصيغة الدعاء، وليس بصيغة الأمر التي تفيد الاستعلاء. وهذه هي القاعدة البلاغية التي تضمنها هذا البيت: أمْرٌ مع استعلا وعكسه دُعا وفي التساويّ التماسٌ وقعا هكذا طلبوا من موسى أن يضرع إلى ربه ليبين لهم ما هي البقرة المأمور بذبحها. وبهذه الصيغة أخبروا موسى باستعدادهم لامتثال أمر الله. ولذلك يريدون أن يعرفوا أكثر ما يمكن من التفاصيل والدقائق عن البقرة التي أمر الله بذبحها حتى يذبحوا ما يريد الله على وفق مراده، ولا يخطئوا في الاختيار. وجاء الجواب على لسان موسى: {قال إنه يقول إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكر عوانٌ بين ذلك}. ركز الجواب على أن القائل هو الله وليس موسى وأن الأمر أمره. ويتضمن ذلك الحض على الامتثال. ***** {فارضٌ}: مُسِنّة قطعت أكثر من سنة من عمرها. بكر : في أول السنوات من عمرها. ويقال سِنّ باكرة، أي غير متقدمة. وباكورة الشيء بدايته. والبُكور أول الصباح. وفي الحديث : بُورك لأمتي في بُكورها عَوانٌ : متوسطة السن. بين ذلك : بين السن الباكرة والسن المتقدمة. هي وسطٌ بينهما. ولم يأت الجواب مختصَرا في جملة هي عَوان بين ذلك، أي بين سنين، حرصا على الإيضاح الشديد حتى لا يحتاجوا إلى وضع أسئلة إضافية يعرف الله أنهم سيضعونها إذا ما جاء الجواب مُبهما أو غير كامل الوضوح، وحتى لا يتذرّعوا لتقاعسهم عن تنفيذ أمر الله بالقول إن جواب الله على سؤالهم لم يكن كافيا شافيا. ومن هنا فبلاغة الجواب تقتضي الإطناب الذي يحمل الإجابة المفيدة بدون حشوْ زائد. لكن بني إسرائيل لم يكتفوا بجواب الله وطلبوا من موسى أن يدعو ربه مرة أخرى أن يبين لهم ما هو لون هذه البقرة وقالوا : {ادْعُ لنا ربك يُبينْ لنا ما لونها}؟ وجاء الجواب قال (موسى) إنه يقول (إن الله يقول) {إنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها تسُرّ الناظرين}. {فاقعٌ لونها}: لونها أصفر شديد الصُّفرة. {تسر الناظرين}: تُدخِل رؤيتُها السرورَ على من يراها. ومع هذه التوضيحات التي لا لبس فيها ازداد بنو إسرائيل تطلعا إلى المزيد من التفاصيل وسألوا موسى للمرة الثالثة قائلين: {ادعُ لنا ربك يبيّن لنا ما هي}. وهذا سؤال سبق لهم أن وضعوه وجاء الجواب عنه فيما سلف، لكنهم أضافوا إلى صيغة السؤال السابق أن الذي حملهم على وضع السؤال من جديد هو: {إن البقر تشابه علينا}: أي أن تنوع أشكال البقر جعل البقر يتشابه علينا، أي يختلط بما يجعلنا غير قادرين على التمييز بينه. ومن أجل ذلك فهم يواجهون التباسا يريدون رفعه ليهتدوا إلى البقرة التي يأمرهم الله بذبحها. وإنا إن شاء الله لمهتدون : إننا نحس أننا سنهتدي إلى تحديد البقرة إن شاء الله لنا أن نهتدي. وهو ما يعني أنهم لا يضعون الأسئلة تحديا وتحايلا وسعيا إلى عصيان أمر الله، بل هم راغبون وحريصون على تنفيذ ما أمر الله به، ولكن حريصون أيضا على أن لا يخطئوا في اختيار البقرة. وجاء الجواب الأخير في نفس صيغة الأجوبة السابقة قال (موسى) إنه (إن الله) يقول إنها {بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث}. بقرة لم تُستعمل كثيرا لا في حرث الأرض ولا في سقي الزرع. {ذلول}: ذلَّ لان وسهُل. ومصدره الذِل (بكسر اللام). أما الذل (بضم الذال) فهو الحقْر والحقارة. والمعنى أن البقرة هي عِجْلة متوسطة السن لم تبلغ سن الحرث عليها، أو سن حملها لماء السقي. مُسَلَّمة لا شِية فيها. مُسلّمة سالمة من العيوب لا شِية فيها. فعل الشِّية هو وشى، والمصدر وشْي. والشِّية هي العلامة، أي لا تحمل على جسمها علامة تميزها. وكان رعاة البقر يضعون على البقر علامة تميز بعضه عن بعض، كأنها الوشم الذي كان الرجال والنساء يضعونه على أجسامهم للتمييز والتجميل. ***** {جئتَ بالحق}: الحق هنا ليس نقيض الباطل، بل المراد هو : الآن وقد بلّغتَنا أجوبة الله على أسئلتنا تبيّن الحق وسهُل علينا البحث عن البقرة التي تكتمل فيها الأوصاف التي جاءت في الأجوبة. وفعلا وجدوها وأطاعوا الله ونفذوا أمره فذبحوها. وما كادوا يفعلون : وكانوا على وشك أن لا يفعلوا لكثرة ما ترددوا وسألوا عنها وعن دقائق أوصافها.