الثقة عملة صعبة بين المجتمع وأفراده، وهي تفوق في ميزان الصرف قيمة العملات الأوروبية، التي يتهافت عليها رجال المال والأعمال من دولار وأورو وجنيه استرليني وهلم جرا. فبها يتماسك بنيان المجتمع الإسلامي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وقد كان عنصر الثقةحاسما في نجاح الزيجات الاجتماعية والعقود الاقتصادية والوعود والانتصارات السياسية أيضا. ورغم أن كفار قريش في بداية عهد الإسلام كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم للحؤول دون وصول الوحي إلى عقولهم وقلوبهم إلا أنهم اطمأنوا للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ووثقوا به لصدق لهجته (ما عهدنا عليك كذبا) وحفظ أماناتهم (إذ أمر عليا رضي الله عنه بالمبيت في فراشه ليلة الهجرة لإرجاع أماناتهم)، وعلى النهج ذاته سارالصحابة والسلف الصالح يتناقلون الثقة عملة صعبة بينهم جيلا بعد جيل، إلى أن وصل حال كثير من المسلمين إلى ما هم عليه في الوقت الراهن، فقلت الثقة ولم يعد الحديث إلا عن تجديد الثقة في شأن تجديد الرؤساء والأمناء وغير ذلك. وأسباب ذلك عديدة رغم أننا اعتدنا تعليق عجزنا دوما على تأثير الاستعمار الأجنبي حتى نريح ضمائرنا وأولها البعد عن التقوى وضعف استحضار مراقبة الله تعالى واليوم الآخر في التعامل، وثانيها ترويج بعض المقولات الاجتماعية من لدن المفسدين وخائني العهود والوعود، لنزع أي غطاء ديني أو خلقي عن هذا السلوك النبيل، فانتشرت مقولات: ما بقات ثقة، اللي خاف نجا..كما اختير لها مرادف لفظةالنية، بعدما انتزعت من سياقها الاصطلاحي، فتقول بعض المقولات أن فلانا نية، لأنه يثق في الآخرين. ومع اضمحلال تداول هذه العملة داخل المجتمع، مال الكثير منا إلى التزام حرفي بمقولة الفاروق عمر رضي الله عنه لست بالخب ولا الخب يخدعني، وسعت هذه الفئة إلى تطبيقها على الكل، بدءا من أفراد الأسرة إلى الإخوان وباقي الأفراد، ويزيدها يقينا بما تفعل حدوث حالات عدم الثقة المتكررة في إخلاف الوعود وتدليس العقود والكذب في الحديث وخيانة الأمانات. وقد حاولت مرارا أن أؤكد لأحد البقالين، الذي أتعامل معه، بضرورة التفريق بين الناس بخصوص موضوع الثقة، فلم أستطع إقناعه، وختم حديثه الطويل والمحتدم معي بقوله:لم أعد أثق لا في الشلحي ولا في الصحراوي، الكل هرب لي بمبلغ مالي، ثمن السلع التي استدانها وقت حاجته.. والحالة لا تخص بقالنا المسكين، بل تتكرر مع رجل السياسة في الانتخابات، وخطابات المثقف الجوفاء، وخيانة الأزواج بعضهم لبعض، وهلم جرا. إن الوضع يستوجب منا جميعا استدراك التردي والتدليس، الذي علا عملتنا الصعبة، لأن الثقة رصيد واجب على كل مسلم صونه مع نفسه وجيرانه وأبناء وطنه وباقي الصالحين من بني البشر، وإذا ضاع منا هذا الرصيد فليس لنا ما به يتماسك مجتمعنا أو ينهض اقتصادنا، وليس معقولا أن ينسب التعامل بهذه العملة الإسلامية الخالصة للآخر، ويتأكد فشلنا في الالتزام بها . ومما يؤكد الإشارة الأخيرة أن الكاتب الياباني ومنظر السياسة الأمريكية فوكوياما، ألف كتابا سماه(الثقة)، حيث جعل مجتمعاتنا الإسلامية تندرج تحت تصنيف الثقة الضعيفة في النفس، رغم أنه ربط ذلك وفق نظرته الخاصة بأن هذا المعطى هو الذي يحد من قدرة المسلمين على استيعاب الثقافات الأخرى.فخاصية الثقة عنده شرط للتقدم والمنافسة المستقبلية بين الأمم، وأنه بقدرما تتأصل هذه السمة فى مجتمع ما بقدر ما يصبح قادرا على المنافسة. لكنها إشارة تحتاج منا إلى التفاتة جادة ومسؤولة في كل مجالات حياتنا.