يحكى عن الأستاذ محمد المنوني رحمه الله أنه عندما تخرج من جامع القرويين بالحصول على العالمية جاء إلى الرباط مع المتخرجين من فوجه لزيارة الشيخ المدني بلحسني، قال: فلما جلسنا في قبة بداره انتظرناه، ولما دخل علينا كان أول ما قال: لا أخالكم تتصورون أنكم بحمل هذه الشهادة قد صرتم في عداد العلماء!. وهذا أمر لا يجادل حوله عاقل، رغم أن قولة الأستاذ محمد منوني، رحمه الله تعالى ارتبطت بزمان معين وأشخاص معينين، وهم ما هم من العلم والعمل، فإن القولة في إحدى أوجهها تنطبق على واقعنا التعليمي والبحث العلمي، وتعكس عدم ارتباط العلم بالعمل، إذ أصبح الحصول على الشهادة العلمية مرتبطا بالفوز بالوظيفة المريحة ماديا ومعنويا، فكم من شواهد دكتوراة دولة نوقشت في جامعاتنا المغربية؟ وكم من بحوث إجازة في مختلف التخصصات، خاصة التخصصات الشرعية، أعدت منذ عهد الاستقلال إلى يومنا هذا؟ وكم من دبلومات وكم.. ولكن أين هم العلماء العاملون؟ وأين منهم نماذج قادوا قوافل الجهاد العلمي والاجتماعي في فترات التاريخ الإسلامي المضيئة؟ إنهم قليلون، وأصحاب الشواهد اليوم كثيرون، والمصنفون في السلاليم الإدارية بهذه الشواهد في كل يوم يتزايدون. البعض من أجل هذه الشهادة، التي تعادل لفظة علي بابا الأسطوريةافتح يا سمسم، قدم رشاوى مادية أو إطراءات وتزلفات لفظية للحصول على شهادة تيسر له ولوج منصب أو وظيفة محترمة، أو ربما سرق بحوث طلبته وطور أفكارها وقدمها أطروحة جامعية، وربما اغتنم فترة إجازة الصيف للمناقشة، وما خفي أعظم. وإذا كانت النوازل كل يوم تتعاظم، فإن الحاجة ماسة اليوم إلى الشهادة العلمية الحقة، التي تحمل قضايا الأمة وتنخرط في همومها باقتدار ومسؤولية، حيث تغدو الشهادة هي الدرج الأول من سلم البحث العلمي والعطاء المتجدد. وهو وضع يستدعي من الجميع العمل من أجل استرجاع صورة العالم العامل داخل المخيال المجتمعي والنفسي في أفق تدعيم حضوره المادي، لا العالم الذي يعتبر الفوز بالوظيفة والمنصب الممتاز هو أغلى الأمنيات. بعض الناس أخيرا، ولحسن حظهم، تفطنوا إلى فخ حمل الشواهد مجرد شواهد،أمام انسداد أبواب الشغل، وعرفوا أن العلم الحقيقي، ليس الشهادة وحدها، وإنما هو ميراث النبوة، الذي يستقر سلوكا متحضرا في الحياة، ووسيلة للإصلاح وعمارة الأرض والتقرب إلى الله تعالى، فيحصل أن نجد دكتورا في الرياضيات يعمل بقالا، أو مجازا في الشريعة سائقا لسيارة الأجرة الصغيرة، ويتحفك بحديثه العلمي وأنت تركب سيارته لغرض ما. ودليلنا على ما نقول أن فطاحل العلماء في المغرب وفي تاريخ الإسلام حملوا ميراث النبوة في صدورهم وعقلوه بألبابهم، دون أن يحمله أسفارا وشواهد فارغة الأثر في محيطها. وبذلك فحاجتنا تزداد إلى العلماء بدل حملة الشواهد، أما وسائل ذلك وأسباب بلوغه، فهي مهمة الأب وهو يوجه أبناءه، ومهمة المسؤول التربوي وهو يصيغ مناهج التربية والتكوين ويشرف ويتابع الأبحاث العلمية، ومهمة الدولة وما تريده من خريجي مدارسها وجامعاتها، وهذا البناء الثلاثي منه الداء والدواء.