أعلن مؤخراً أن البي بي سي ستطلق مطلع العام 2007 فضائية ناطقة باللغة العربية بعدما أقرت الميزانية الخاصة بذلك، وهي خطوة تتأسس، بحسب رئيس الخدمة العالمية فيها، "نيجيل تشابمان"، على النجاح الكبير الذي حققته الخدمة الإذاعية باللغة العربية، وعلى خبرة 67 عاماً في هذا المجال. من الواضح أن بريطانيا قد قررت دخول لعبة التأثير الفضائي في المجال العربي بعد انحسار تأييد البث الإذاعي خلال السنوات الأخيرة، ومعلوم أن الاستماع إلى الإذاعات قد انحصر في من يركبون الحافلات ويندر أن تجد من يستمع إلى الإذاعة السياسية في بيته، فقد حلت الفضائيات بتنوعها مكان الإذاعة، الأمر الذي يبدو طبيعياً إلى حد كبير، فالمرئي المسموع لا بد أن يتفوق على المسموع. إلى جانب إدراك المعنيين لحقيقة تراجع المسموع أمام سطوة الصورة ثمة دافع آخر لا بد أنه قد وقف خلف القرار البريطاني بإطلاق الفضائية الجديدة يتمثل في السمعة السيئة لبريطانيا في الوعي العربي والإسلامي بسبب تبعيتها المفرطة للخيارات الأمريكية، وبخاصة في الملفين الفلسطيني والعراقي، بل ومجمل ملفات المنطقة، وحين يخرج من بين من ولدوا وعاشوا في بريطانيا من يرى إمكانية تفجير نفسه في أحد قطاراتها أو حافلاتها، الأمر الذي نرفضه بالتأكيد، فإن من الطبيعي أن يثير ذلك الكثير من القلق في أوساط الخارجية البريطانية التي تمول البي بي سي. من المؤكد أن التبعية البريطانية لمجموعة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة قد تركت آثاراً كثيرة على سمعة لندن في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية، وهي سمعة لن تكون الفضائية الجديدة قادرة على تحسينها، ولا نبالغ إذا قلنا إن تجربة الحرة ستتكرر هنا، ولن ينفع الفضائية الجديدة ما راكمته البي بي سي العربية من إنجازات، لأنها بكل بساطة لم تكن إنجازات نابعة من الموضوعية كما يقول المسؤول البريطاني، بل نابعة من ضآلة الخيارات أمام المواطن العربي الذي كان يطل من خلال إذاعة لندن كما كانت تعرف على الواقع العربي والإسلامي في ظل سيادة إعلام قطري لا يشبع شهية الإنسان العربي للمعرفة والخبر السياسي، وهو المسيس على نحو لا يعرف في الشعوب الأخرى. الموضوعية ليست ميزة يمكن أن تمنح الفضائية الجديدة ميزة تتفوق بها على الجزيرة كما يتوقع من سيديرونها، لاسيما حين تكون موضوعية انتقائية، ذلك أن المواطن العربي لن يتخيل أن بريطانيا التي تمارس كل هذا الإجحاف بحق قضايا الأمة ستطبق منهج العدل معها في وسائل الإعلام، أما الأهم فهو أن الموضوعية ليست سلعة مطلوبة بالنسبة للمواطن العربي إذا كان معناها الحياد في صراعاتها التاريخية في فلسطين والعراق ومع الغطرسة الأمريكية أو مع الفساد الذي يستشري في الأروقة السياسية العربية. والحال أن الجزيرة لم تتفوق من خلال المهنية أو الموضوعية، وإلا لكان للعربية شأن كبير في منافستها، لكن واقع الحال يؤكد أن المسافة بينهما ما تزال كبيرة كبيرة، مع أننا نشكك في موضوعية هذه الأخيرة، بل نرى أنها أكثر ميلاً إلى الخطاب الأمريكي، ربما من الحرة ذاتها. المنافسة ستكون محسومة لصالح الجزيرة، ليس بسبب المهنية والموضوعية، وإنما بسبب اللغة والخطاب، فقد أدركت الجزيرة أن قدراً من محاكاة هواجس الجمهور لا بد منه كي تستقطبهم، أما وضع القاتل والضحية على قدم المساواة أو التعامل مع الأعداء بمنتهى الحياد، فهي السياسة التي لم تتبعها، لا بريطانيا ولا أمريكا ولا أية ديمقراطية في العالم، وإلا فهل كان ممثلو الجيش الجمهوري الايرلندي يعاملون على قدم المساواة مع الناطقين باسم الدولة في وسائل الإعلام البريطانية؟! منافسة محسومة النتائج، تلك التي ستخوضها فضائية البي بي سي، وإذا أرادت بريطانيا تحسين صورتها في عالمنا العربي والإسلامي فلا مجال أمامها غير تغيير سياستها والكف عن لعب دور التابع لسياسات المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة.