مسألتان يثيرهما في الذهن الخبر القادم من روما بأن حكومة ماتيو رنتزي قررت، إزاء الانخفاض الشديد في عدد الولادات في إيطاليا، إعلان الثاني والعشرين من هذا الشهر «يوما للخصوبة» لتشجيع الإيطاليين على الإنجاب. المسألة الأولى تتعلق بالوضع السكاني العربي. حيث أن حسني مبارك سئل قبل سنوات في مقابلة تلفزيونية عن سبب تراجع مصر عن مستوى التنمية الذي حققته في الستينيات. كانت مصر وفورموزا (التي تعرف الآن باسم تايوان) متساويتين آنذاك في النمو الاقتصادي! أجاب مبارك: لا تنس أن تعداد الشعب المصري لم يكن يتجاوز آنذاك 18 مليون نسمة، أما اليوم فقد أصبح يربو على الثمانين مليونا. متوقع الرد بأن هذا كلام تبسيطي حول موضوع معقد. ومعقول التعليق: فما بال ألمانيا (المثال الأقصى) وتركيا (المثال الأدنى)، أفلا يتجاوز عدد السكان في كل منهما الثمانين مليونا؟ ومعروف كذلك الرأي القائل بأن كثرة السكان لا تفسر التقدم أو التخلف في الاقتصاد، بدليل تمكّن الصين والهند، البلدين اللذين يتجاوز عدد السكان في كل منهما المليار نسمة، من تحقيق معدلات نمو اقتصادي باهر طيلة العقدين الماضيين، بل والانطلاق نحو نهضة شاملة في مختلف مجالات التنمية البشرية. وأذكر أن أستاذنا في مادة العلوم الطبيعية كان يقول لنا ونحن أطفال: «لا تصدقوا ما يقال من أن فرص تحقيق الرفاه ورغد العيش تتناقص كلما تزايد عدد السكان. بل الحق في ما قاله ماوتسي تونغ: "أليس لكل صيني، مثل بقية البشر، يدان تعملان وتنجزان؟". كان أستاذنا يقول لنا ذلك، ونحن أطفال، ثم يستدرك: «هذا، رغم أني أخالف الزعيم الصيني في كل شىء. فهو شيوعي وأنا لست كذلك. وهو ملحد وأنا مؤمن». كانت هذه الملاحظة من أستاذ العلوم الطبيعية تعليقا سياسيا احتجاجيا بامتياز على سياسة الدولة التونسية في العهد البورقيبي، أي سياسة تحديد النسل التي كان يشرف عليها «ديوان التنظيم العائلي والعمران البشري». وقد انتهجت الدولة هذه السياسة منذ مطلع الاستقلال، على أساس أن تحديد النسل هو من الشروط الضرورية للقدرة على خوض «الجهاد الأكبر» ضد الفقر والجهل والمرض. كل ما سبق من اعتراضات على القول بوجود ترابط بين تزايد السكان وتزايد الفقر هي اعتراضات وجيهة. ولكنها تغفل معطيين أساسيين على الأقل. الأول أن شرط صحة القول بأن كثرة السكان لا تؤثر بالضرورة تأثيرا سلبيا في جهود التنمية هو أن يكون هنالك نموّ. ذلك أن النمو هو من أول شروط التنمية. وهو ما يمكن التعبير عنه أيضا بالقول بأن تحقيق التقدم (بما هو إطلاق للطاقات وإنشاء للثروات) هو من أول شروط إحقاق العدالة (بما هي تكافؤ للفرص وتكافل بين مختلف فئات المجتمع). المعطى الثاني هو أن التزايد السكاني لا يمكن أن يتحول عاملا إيجابيا إلا في الدول ذات الإرادة السياسية التقدمية والمخططات التنموية الرشيدة، الدول التي تسير على هدي مبادىء وطنية واضحة وبرامج اقتصادية متوازنة. أما في معظم دولنا، فإن الارتجال والبدء من الصفر كلما تغير المسؤول أو الوزير، وضعف الرعاية الصحية وانهيار المستوى التعليمي، والهوس بالنجاح السريع، وغلبة الذهن البيروقراطي البليد وضعف البنية الاقتصادية وافتقارها للتنوع جميعها عوامل تجعل من كل ولادة جديدة عبئا إضافيا على مورد محدود أصلا. ولهذا فإن من أجلى مظاهر العطالة عندنا أن يسود الاقتصاد اللاّ إنتاجي (الذي يؤدي إلى تناقص الثروة الوطنية بدل تزايدها) بالاقتران مع سيادة الخطاب الايديولوجي (الذي تغذيه بعض التصورات المستمدة من فهم فولكلوري للدين) بأن الكثرة مصدر للقوة وبأن لتفاقم الفقر أسبابا متعددة، ولكن الانفجار السكاني ليس من ضمنها. المسألة الثانية التي يجدد طرحها الخبر الإيطالي هي أن الإحصائيات السنوية قد دأبت منذ زمن على التأكيد بأن إيطاليا والبرتغال وبولندا وإسبانيا هي أضعف البلدان الأوروبية في نسبة الولادات. فهل يكون للثقافة (حتى لا نقول الديانة) الكاثوليكية، في الخلفية البعيدة، دور ما في استمرار هذا الوضع الديمغرافي السالب الذي ينم عن عدم ثقة بالمستقبل؟ المصدر: القدس العربي