عبادات وقربات تُصلح القلب، وتهذب النفس، وتُصِح البدن، وتَذهب بفضول الكلام والمنام، وسوء مخالطة البشر، الصوم جنة يقود إلى الجنة، وحصن حصين يقي من النار، إنه امتناع مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، يستتير في النفوس الكريمة الشفقة، ويحض على الصدقة، الصيام لجام المتقين، وجنة الصالحين، ورياض الأبرار المتقين، تركوا محبوبات النفوس وملذاتها، إيثارا لمحبة الله ورضاه. موقف التوديع والمحاسبة، يستدعي الإشارة إلى بعض العبادات في أسرارها وآثارها على المتعبدين والصائمين، وعيا وهديا وشعارا والتزاما، ومبدأ وتطبيقا، لعل الله أن يختم لنا شهرنا بخير، وأن يغفر لنا عثراتنا وما أكثرها، ولا نزكي على الله أحدا. إن المؤمن يجتمع له في شهره هذا جهادان: جهاد في النهار بالصيام، وجهاد في الليل بالقيام، فمن جمع هذين الجهادين ووفى حقوقهما، وصبر عليهما وصابر،و فِيَ أجره بغير حساب. الصيام يمنع في النهار الطعام، والقرآن يمنع في الليل المنام، والصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، ولقد كان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم مداوما على الاعتكاف في شهر رمضان،حتى قال الزهري رحمه الله:عجبا للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله. الصيام يذكر بحال الأكباد الجائعة، والأجساد العارية، والنساء المترملة، وحينها يرق القلب ويلين الطبع، وتُقبِل النفس على الخير،فتتأسى بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان أجود ما يكون في رمضان.ورمضان موعد معلوم لجماعة المسلمين كلهم، ينتظمون فيه على نمط واحد من المعيشة، الغنِي والفقيرِ، والذكر والأنثى، والشريف والوضيع، كلهم صائم لربه، مستغفر لذنبه، ممسك عن المفطرات في وقت واحد، متساوون في الجوع والحرمان.إنه تذكير بوحدة الهدف ووحدة الشعور، ووحدة الضمير، ووحدة المصير. والموقف موقف وداع ومحاسبة،أين استشعار المحاسبة، وأين صدق التوديع من أناس لم يكن صيامهم سبيلا لتقوى الله، وضبطُ شهواتهم، وحفظ نوازع نفوسهم، أقوام انقلب صيامهم نوما في النهار من غير عمل، وسهرا في الليل في غير عبادة.قارنوا بين أحوال الصائمين القانتين، وبين أقوام يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله.لم يعرفوا من رمضا نهم إلا أنواع الملذات ومظاهرِ التبذير والإسراف، فصيامهم جوع ليس إلا كما قال صلى الله عليه وسلم: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. فأين الصائم الحق من أقوام يقترفون المآثم والخطايا، ثم لا يتوبون ولاهم يذكرون، يشتغلون بتدبير الفتن والمكائد، ومحاربة الله ورسوله وجماعة المومنين، وقومُ آخر انطوت قلوبهم على الحقد والحسد والبغضاء، ليفرقوا كلمة المؤمنين، وفئة أخرى اجترأت على المظالم وتستغل مصالح المسلمين لمآربهم الشخصية، الصائم لا يكذب ولا يرتاب، ولا يغتاب ولا يرتشي، لا يخادع ولا يرائي، لا يأكل الربا، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، لا يمنع الزكاة أو يستثقل إخراجها، ليعلم هؤلاء أن العبادات في الإسلام،غير منفصلة عن الحياة ومعاركها وآفاقها. وإن كثيرا منا غير معني بحديث المحاسبة هذا، فهو لاه غافل، قد قصر في جنب الله، وكأنه لا هم له إلا أن يتجول في الأسواق والشوارع جيئة وذهابا، يؤذ نفسه ويؤذ المؤمنين والمؤمنات، يقطع أوقاته في سهر عابث،وسمر ماجن، وتبرج وتسكع، وإظهار للزينة والمفاتن، على كل واحد منا أن يظهر لخالقه من نفسه خيرا، فمن كان مجدا فليزدد، ومن كان مقصرا فليقصر، ومن غلبه هوى أو تشاغل بلهو فليبادر بالتوبة النصوح، وليعظم رجاؤه بربه، فأبواب التوبة مفتوحة، ومن كان غارقا في الشهوات والنزوات، فقد طال عناؤه وعظم شقاؤه، ومن نوقش الحساب هلك، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل. لقد مضت والله أوقات هذا الشهر الكريم سراعا، وكان الكثير منا مفرطا، فنسأل الله العلي القدير، أن يُخلِف علينا بالمغفرة ما مضى، وأن يبارك لنا في الصالحات فيما بقي، وأن يختم لنا شهرنا بالعفو والغفران والعتق من النار،وأن يبلغ في الخير آمالنا، وأن يعيد أمثاله علينا وعلى أمتنا في خير وعز ونصر وأمن وأمان.