إننا نبتلى في رمضان، بالاختيار بين هدى الله عز وجل، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين نزوات النفس ونزعات الهوى، فالله لا يغلبنك أهل الأهواء على رأس مالك الذي هو دقائق عمرك. أعطيت ملكا في ما أنت مالكه من لم يسس ملكه فالملك قاتله وبادر العمر فالساعات تنهبه وما انقضى بعضه لم يبق كامله وليس ينفع بعد الموت عض يد من نادم ولو انبتت أنامله فطلب الله تعالى منا أن نتباعد عن مساخطه وما يغضبه في أيام الصيام {لعلكم تتقون}(البقرة 183)، ويريد أقوام أباعد ممن يتبعون الأهواء والشهوات أن يباعدونا فيه عن الطاعة والتقوى بعرض الفتن على القلوب في الإذاعات والفضائيات وغيرها من ملتقيات الغفلة ومنتديات الإسفاف: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}(النساء 26 27). إن في رمضان، تلوح فرصة نادرة لمريدي اغتنام الأوقات واستثمار الأعمار، فرمضان عمر قصير، وأجل محدود، له بداية منتظرة ونهاية معروفة، وهو نموذج حي مصغر للعمر التكليفي للإنسان، فالإنسان له عمر تكليفي خصصت أوقاته للطاعات في أوقاتها، وعمر وظيفي جعل عونا على تلك الأوقات، وخصص للمنام وقضاء الحاجات الإنسانية الطبيعية والجبلية، وكذا شهر رمضان في نموذجه المصغر، فإذا نحن أضعنا عمرنا التكليفي فيه، وسويناه بعمرنا الوظيفي، فقد غبنا أنفسنا وظلمنا أرواحنا إذ لم ننصفها من أجسادنا، وهو ما يتكرر بشكل أكثر في بقية العمر، مع توافر الصحة والفراغ، ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم:نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ، يقول ابن الجوزي رحمه الله في معنى هذا الحديث قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا، للشغل بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة، فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استغل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استغلها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم. إن رمضان ميزان ومقياس نقيس به مدى الغبن الحاصل في الأعمار والأوقات، فهناك من يغبن في العشر الأول من شهره، على أمل أن ينشط في أوسطه أو آخره، فيقصر في نوال الفضل، وهناك من ينشط في أوله ، ويكسل في أوسطه أو آخره، انشغالا عن الطاعات أو استثقالا لها، وهناك من يغبن نفسه في الشهر كله، فيخرج منه كما دخل فيه، بل ربما أسوأ مما دخل فيه، لأنه هجر القرآن، في شهر القرآن، وأفطر قلبه وإن صام بجسده، ونام عن القيام والعبادة، وأقام شهر الطاعة في سهر الغفلة. يا مذهبا ساعات عمر مالها عوض وليس لفوتها إرجاع أنفقت عمرك في الخسار وإنه وجع ستأتي بعده أوجاع كما أن رمضان مقياس وميزان، نعرف بهما المنزلة التي نحب أن نضع أنفسنا فيها في سائر عمرنا، ولاشك أن منزلة السابقين، هي التي تشرئب إليها الافئدة، وتمتد إليها الأعناق، فيمكننا أن نعرض أنفسنا لها، ونعرض أنفسنا عليها، أداء للفرائض كاملة، وإكثارا من النوافل مع اجتناب المحرمات وترك المكروهات، لعلنا نظفر بالجوار الكريم في فردوس الجنان.