من غرائب الديمقراطيات الغربية التي لم تعد تثير استغراب أحد، لأنها صارت تجري مجرى العادات أو الضرورات، أن الجهاز السياسي والبيروقراطي كثيرا ما يكون مستعدا لتبديد وقت ثمين وإنفاق أموال طائلة من أجل التوصل إلى نتائج معروفة سلفا. إذ إن النتائج لا تصير أكيدة ونهائية، في العرف الديمقراطي الشكلي، إلا إذا مرت بالقنوات الرسمية لصرف الوقت والجهد والمال. وهكذا فقد أنفق جون تشيلكوت ولجنته أكثر من سبعة أعوام في التحقيق في ملابسات قرار بريطانيا المشاركة في العدوان على العراق عام 2003 ليصل إلى نتيجة كان السفير البريطاني السابق لدى واشنطن كريستوفر ماير قد أعلنها منذ عام 2005، وهي أن بلير دخل الحرب لمجرد أن سيده بوش قرر شنها. هذا كل ما في الأمر. حقيقة تافهة حقا. ولكن هل تبرر تفاهة الحقيقة محاولات البحث عن تفسيرات أخرى قد تبدو أرجح وزنا أو أعسر فهما؟ الحقيقة، في مطلق تفاهتها، هي أن التابع السعيد بتبعيته قد أكد لسيده منذ ربيع عام 2002 قائلا: أنا معك أيّا كان الوضع، ومهما حصل. وقد روى كريستوفر ماير في مذكراته، ثم في مقالاته ومقابلاته الصحافية العديدة، كيف أن بلير كان مهووسا بما يسمى «العلاقة الخاصة» بين بريطانيا وأمريكا (ولو أن المعلقين الأمريكيين كثيرا ما يقولون، ساخرين، إن هذه العلاقة ليست موجودة إلا في أذهان البريطانيين!)، وأنه كان يبرر رغبته العارمة في أن يكون أخلص خلصاء الرئيس الأمريكي بالزعم بأن قربه من بوش هو الذي سيمكّنه من التأثير فيه. ولكن الواقع أن بلير كان مهووسا بهذه العلاقة الخاصة المزعومة إلى درجة أنها قد تحولت لديه إلى غاية في ذاتها. ولهذا فإن رغبته في القرب من بوش قد أوقعته في بعض الحالات في مواقف محرجة وسلوكيات صبيانية. بل إن ماير ذكر للبي بي سي أن مسؤولين من 10 داوننغ ستريت اتصلوا به بعيد ذهابه إلى واشنطن سفيرا ليقولوا له إنك مطالب من أعلى المستويات في الحكومة بأن تتقرب من مسؤولي الإدارة الأمريكية. وقال إنهم استخدموا، لمزيد التأكيد، عبارة بذيئة تفيد الأمر بالتزلف والملاصقة إلى حد الحميمية المزعجة. وهكذا يمكن القول إن أكبر خطأين سياسيين ترتكبهما بريطانيا منذ بداية القرن الحادي والعشرين إنما يجدان تفسيرهما في اعتبارات شخصية بحتة: توني بلير زج ببلاده في حرب دشنت خرابا إقليميا مديدا لمجرد تحقيق رغبته الصبيانية في القرب من سيده في واشنطن والظهور بمظهر أوفى الأوفياء لأقوى الأقوياء، وديفيد كامرون زج ببلاده في استفتاء دشن ضياعا داخليا ينذر بأن يكون مديدا لمجرد تحقيق رغبته في إنهاء الشقاق المستديم داخل حزبه وإخراس صوت الجناح اليميني المعادي للاتحاد الأوروبي. واللافت في الحالتين أن الرغبة نابعة من وهم، وأن الوهم يغري بالمجازفة. كما أن اللافت في الحالتين أن كلا من قرار الحرب وقرار الاستفتاء قد اتخذ دون أي إعداد جادّ لاحتمالات المستقبل، أي دون إعداد لما يسمى «خطة الما- بعد». وإذا كان أساس الوهم عند كامرون سياسيا: أي التقدير بأن الشعب البريطاني في عمومه مستنير، وبأن بضعة أسابيع من الشرح والتفسير ستكون كافية لإقناع الأغلبية بأن منافع البقاء داخل الاتحاد أكبر بكثير من المساوىء، فإن أساس الوهم عند بلير سايكولوجي إلى حد يتاخم الحالة السريرية. ذلك أن أساس الوهم عند هذا السياسي الزئبقي المتخفف من أعباء الضمير هو عقيدته الخلاصية، بل الأحرى عقدته الخلاصية. إذ بمثلما أنه لا يمكن فصل قرار الحرب عن دخول بوش عالم التديّن من باب نموذج «المسيحي المولود من جديد»، فإنه لا يمكن فصله عن دخول بلير عالم التدين من باب الانتقال المتروي والمدروس من الأنغليكانية إلى الكاثوليكية. وإذا كان اللافت، سياسيا، في حالتي العدوان على العراق والاستفتاء على الاتحاد هو البناء على الوهم وعدم الإعداد لاحتمالات المستقبل، فإن الثابت، إعلاميا، في كلتا الحالتين هو أن الصحافة الشعبية، التي يملكها امبراطور الإعلام اليميني الصهيوني روبرت مردوخ، قد لعبت الدور الأهم في إطفاء نور العقل لدى الجمهور.