السنة في حياتنا جهود السلف في حفظ السنة النبوية عالج العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله أزمة الفهم لدى الأمة، مستشعرا خطرها في عصره، وقال: (وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام! والذي فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه، ولا يرفع هؤلاء به رأسا (...)، حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره، فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله مراده كما ينبغي في موضع واحد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول، وأما من عكس الأمر، بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله، وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئا، فدعه وما اختاره لنفسه، وعليه ما تولى، وأحمد الله الذي عافاك مما ابتلاه به. لله دره، فكأن هذه الأزمة قد دبت إلى مجتمعنا الهالك فاستقرت فيه لتزيده هلاكا بعيبها وعيوبها. فالتأويل المفرط للنص، والتقصير به عن المراد مع الانتقاص من أهل السنة إنما هي ظواهر موروثة من مجتمعنا القديم، ولا يضر وجودها، لأن كل عصر لا يخلو من شر، إنما الذي يضر هو غياب من يتصدى لها كما تصدى السلف لعيوب عصرهم، فقد فعلوا ما عليهم تجاه السنة، فبرئت ذمتهم، وأكبر ما فعلوا هو أنهم استوثقوا من ثبوت صحتها بالموازين العلمية الدقيقة التي بهروا بها العالم، وقد شمل ذلك السند والمتن معا سواء أكانت السنة قولا أم فعلا أم تقريرا، وهي أول خطوة، إذ الفهم لا ينصب إلا على أصل صحيح من السنة، وهو الفهم المطلوب، وأما الفهم القائم على أصل ضعيف أو موضوع فهو إدراك غير مرغوب فيه، لأن الأصل في هذا الدين أن تستقى معارف المسلمين من أصول الإسلام المقطوع بصحتها. وأهم ما صنعوا هو أنهم يسروا فهم النص النبوي بالمعطيات العلمية المشهود لها بالحجية، وقد تم ذلك وفق القواعد والعلوم التي ابتكروها لهذا الغرض، منها: سبب ورود الحديث ومعرفة ناسخه من منسوخه، ومكيه من مدنيه، وهذه الفنون يعين على معرفتها والوقوف على أسرارها كل من علم تاريخ السنة والسيرة النبوية، وجمعوا النصوص في كتاب واحد، وصنفوها في أبواب، وفي أبواب داخل كتاب يخص موضوعا معينا منها، وكل باب منه في جزئية معينة حتى تجمع ليسهل معرفة المحكم من المتشابه، وما تعارض منها ليجمع أو يرجح، وهذا كله لغرض فهمها وفق معطيات النصوص القرآنية والمقاصد الكلية للإسلام، ناهيك عن العلوم الأخرى التي ابتكروها لهذا الغرض، وأنشؤوها لهذا السبب، وما كان إنشاؤها في الحقيقة إلا لأجل ضبط الفهم وتيسير المعرفة، ولم يبق للمتأخرين من أهل هذا العصر سوى أن يتابعوا الخلل ليعالجوه، وذلك بكل الوسائل المادية الممكنة، وبجميع الأسباب المنهجية والفكرية التي تقتضيها الحاجة<، وأقواها هو التصدي ل(التأكد من سلامة النص من معارض أقوى منه، من القرآن، أو أحاديث أخرى أوفر عددا، أو أصح ثبوتا، أو أوفق بالأصول وأليق بحكمة التشريع، أو من المقاصد العامة للشريعة التي اكتسبت صفة القطعية، لأنها لم تؤخذ من نص واحد أو نصين بل من نصوص مجتمعة. الدكتور محمد خروبات