بدأ جلالة الملك محمد السادس أمس الثلاثاء جولة إفريقية تقوده إلى خمس دول هي بنين والكاميرون والغابون والنيجر والسينغال، تمتد إلى غاية 28 من الشهر الجاري، وذلك في إطار تجذير العمق الإفريقي للديبلوماسية المغربية وتدشين علاقات سياسية واقتصادية مع بلدان القارة السمراء والدفع بديناميكية التقارب مع دولها. وتشكل هذه الجولة الأولى من نوعها التي يقوم بها جلالة الملك لعدد من البلدان الإفريقية، مما يعطيها طابعا أكبر وأكثر عمقا، ويؤشر على تحول مهم في السياسة المغربية اتجاه الجوار الإفريقي. فمنذ توليه الحكم عام 1999 قام جلالة الملك بزيارات متفرقة لعدد من البلدان الإفريقية كموريتانيا والسينغال والكاميرون قادت إلى تقوية العلاقات السياسية والاقتصادية مع هذه الدول، وأظهرت الاهتمام الكبير الذي يوليه جلالته للقارة كعمق حضاري وتاريخي واقتصادي للمغرب في مختلف المحطات التاريخية، لكن الجولة الحالية التي تستغرق أسبوعين تقريبا وتقوده إلى خمس دول إفريقية على التوالي تعتبر دليلا على الرهانات الجديدة للسياسة المغربية اتجاه القارة. لقد اعترى العلاقات المغربية الإفريقية نوع من الضعف والتراجع خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي عندما كانت هناك رياح متعددة تهب على القارة السمراء، وأدت إلى انشقاقات كبيرة بين بلدانها على حساب قضاياها الرئيسية ومصيرها وتحديات شعوبها، وذلك بسبب التقاطب الدولي القوي بين معسكرين دوليين يتنافسان على كسب التأييد الإفريقي، وقد دفع المغرب في تلك المرحلة فاتورة هذا التقاطب االذي كان سلبيا في الكثير من تفاصيله، مما دفع به إلى الخروج من منظمة الوحدة الإفريقية(الاتحاد الإفريقي حاليا) عام 1984 بعدما تم حشر الجبهة الانفصالية للبوليساريو داخلها بدعم واضح من الجزائر وتأييد من عدد من البلدان الإفريقية التي كانت تؤيد أطروحة الانفصاليين في تلك الفترة، مقابل منح كانت تتلقاها من النفط الجزائري والليبي، في استغلال لفقر تلك الدول واحتياجاتها، قبل أن تصحو تلك البلدان فيما بعد على زيف هذه الأطروحة وتكشف اللعبة المستترة وراءها وتسحب بالتالي اعترافها بالجبهة الانفصالية واحدة بعد الأخرى. وبقدر ما كشف خروج المغرب من حظيرة منظمة الوحدة الإفريقية في النصف الأول من الثمانينات عن عجز المنظمة عن التعاطي مع أزمات القارة ومشكلاتها وإيجاد الحلول لها، وهي المنظمة التي تأسست في بداية الستينات من القرن الماضي على أساس حل المعضلات التي تتخبط فيها بلدان القارة التي كانت حديثة الاستقلال، بقدر ما أظهرت التطورات اللاحقة بعد ذلك أن الديبلوماسية المغربية قد تركت فراغا كبيرا تسلل منه أعداء الوحدة الترابية للمغرب مستغلين غياب صوته داخل المنظمة لترويج مشروعات وهمية، لأن سحب عدد كبير من دول المنظمة اعترافها بجبهة البوليساريو أبان بأن الديبلوماسية المغربية التي أدارت ظهرها للقارة قد أخطأت مواعيدها ومددت مرحلة التعاطف الإفريقي مع أطروحة الانفصال نتيجة غيابها عن العمق الإفريقي الطبيعي للمغرب. هذا الهاجس المتمثل في إعادة الروابط مع بلدان القارة السمراء وتصحيح أخطاء الديبلوماسية المغربية كان حاضرا لدى جلالة الملك محمد السادس عندما كان وليا للعهد، تجلى ذلك على سبيل المثال خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر يوليوز عام 1997 في نيويورك عندما دافع عن مصالح القارة الإفريقية بمناسبة الحديث عن أجندة القرن الحادي والعشرين، وبعد توليه الحكم في يوليوز عام 1999 شرع جلالة الملك في التوجه نحو البعد الإفريقي الذي ظل غائبا في السابق، حيث دعا في القمة الإفريقية الأوروبية في شهر أبريل من عام 2000 بالقاهرة إلى تفكير جماعي حول السبل والمفاهيم الجديدة الكفيلة بتأهيل القارة وإخراج بلدانها من أوضاعها الخانقة وشن حرب بلا هوادة على الفقر، وهي الدعوة التي قوبلت بترحيب كبير من مختلف الدول الإفريقية التي أدركت تبني المغرب لقضاياها. وقد تكررت نفس الدعوة في القمة الإفريقية الأوروبية التالية بباريس في فبراير 2002 عندما دعا جلالة الملك إلى شراكة إفريقية وتعاون دولي فاعل من أجل مستقبل القارة وشعوبها. غير أن أبرز خطوة أقدم عليها المغرب خلال العامين الأخيرين اتجاه القارة وكان لها صدى كبير في عموم البلدان الإفريقية هي تلك التي تمثلت في رعاية جلالة الملك عام 2002 بالرباط لقمة بين ثلاثة بلدان إفريقية تنتمي إلى حوض مانو هي غينيا وليبريا وسيراليون من أجل الخروج باتفاق مصالحة فيما بينها، وتكللت المصالحة بالنجاح حيث توصلت البلدان الثلاثة إلى توقيع اتفاق بوساطة مغربية، وقد حسبت هذه الخطوة الكبيرة رصيدا واضحا للديبلوماسية المغربية الإفريقية، ثم جاءت الخطوة الثانية عندما أعلن جلالة الملك عن الإعفاء لفائدة بعض الدول الإفريقية عن الديون المستحقة للمغرب عليها، وقد كان صدى هذه الخطوة أيضا أكثر إيجابية في الأوساط الإفريقية، حيث أظهرت الاهتمام المغربي بالشأن الإفريقي وانخراطه الإيجابي في كل ما يمس مصيرها ومستقبلها. وتبدو الجولة الحالية التي يقوم بها جلالة الملك لخمس دول إفريقية بمثابة تصحيح لمسار الديبلوماسية المغربية وتقوية البعد الإفريقي، خصوصا بعدما أصبح المغرب اليوم مرتبطا بعدة اتفاقات تعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية وغيرها مع عدد من بلدان القارة، ومن شأن هذه الجولة التي هي الأولى من نوعها أن تعطي المغرب نوعا من الحضور الفاعل والمؤثر في الساحة الإفريقية كطرف فاعل ومحاور قوي، ومحاصرة أطروحة الانفصاليين في القارة التي كانت تعد إلى وقت قريب المجال الرئيسي لترويجها والمنبر الأول لأصحابها. إدريس الكنبوري