للشهداء منزلة عظيمة عند الله وعند الناس. منزلة يستمدونها من قدرتهم على تقديم أغلى ما لديهم من أجل سعادة الآخرين وحريتهم وحمايتهم من الأخطار والأشرار ومن كل طاغية جبار يسعى في الأرض علوا وفسادا. الشهداء لا يعيشون طوال حياتهم لأنفسهم، ولا يفكرون في مناصب ولا كراسي ولا مغانم تصغر أو تكبر. إنما يقدمون المغارم من ذواتهم ويقدمون أموالهم وأنفسهم فداء للغير وتحقيقا للخير ودفعا للشر. الشهداء طينة خاصة من البشر تعلو فوق التراب والطين ويحملون أرواحهم على أكفهم معتقدين أنها ليست ملكا لهم، وإنما هي ملك للمصلحة العامة وللإنسانية كلها. ولا ينحصر الشهداء في قائمة الذين يموتون في ساحات المقاومة والكفاح دفاعا عن الأرض والعرض فقط، بل إن القائمة تطول لتشمل الذين ماتوا دون أموالهم وأولادهم، والذين ماتوا على فراشهم وهم كثيرون، أو ماتوا في حادثة من الحوادث مسلمين وجوههم وقلوبهم لله رب العالمين وعاشوا مهمومين بقضايا الآخرين من المستضعفين والمظلومين. ومن اليقين في ديننا وشريعتنا أن الشهداء لا يموتون إطلاقا، بل يبقون أحياء: فحياة الشهداء وبشارتهم محققة لا ريب فيها، ويبقون على صلة بهذه الحياة الدنيا، ومنهم من يتمنى العودة إلى الحياة اليومية ليعيد الاستشهاد من جديد لما يرى من كرامات وسعادات. وأرواحهم في أجواف طير خضر يرزقون في الجنة ويأكلون منه ويتنعمون فيها، أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة. والشهداء لا تبلى أجسادهم ولا تأكل الأرض أبدانهم، مثلهم في ذلك مثل الأنبياء والمؤذنين والمحتسبين وحملة القرآن العاملين الصادقين. ومن آثار الشهادة والشهداء أن القضايا الاجتماعية والسياسية والحضارية للأمة والإنسانية تبقى حية في الضمائر والنفوس والوقائع، ولذلك بعث الأنبياء ليكونوا شهداء على الناس وعلى أخلاقهم ومساواتهم وأخوتهم وتعاونهم على البر والتقوى، ويبقون هكذا إلى أن ينقضي أجلهم ويؤدوا رسالتهم، فإن رحلوا عن هذه الحياة تولى الشهادة من بعدهم أتباعهم الأوفياء ليكملوا المهمة ويحفظوا القضية ويحملوها بكل ما أوتوا من قوة ويتوجون المسار بتضحية فريدة. ومن خلا ل استقراء التاريخ القريب والبعيد، يتأكد أن الأمة التي يعيش أبناؤها شهداء على أنفسهم وعلى الناس وتقدم الشهداء في ساحات متعددة سرعانما تنتصر وتنهض وتتدفق طاقاتها بالخير على الإنسانية، وذلك ما أخذت تباشيره تلوح في الأفق بعد أن نهض المسلمون ليكونوا شهداء على زمنهم، وبعد أن استشهد الكثيرون في هذا العصر في كل شبر مستعمر، وخاصة على أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين أرض فلسطين المسلمة وأرض المسجد الأقصى.