بالموزاة مع مظاهر العصرنة والتحديث، لازالت تنتشر بين الناس طقوس سريالية تصعب على الفهم والتحليل، تعود لفترة ما قبل العلم و الحضارة و الدين، تحدثك أنه في مغرب الألفية الثالثة يعتقد الناس بتملك الجن لسلوكهم وسريانه بالشرايين. في عصر علم حطم حدود الخيال واجتازه لحقائق لم تكن مصدقة قبل حين، تُبعث الخرافة وتتشبث بالشعوذة والدجل لتتسلط على العقول فلا تبين. لا في الأماكن البعيدة النائية، ولا في البوادي المعزولة النائية، بل في قلب العاصمة الإدارية وعلى مقربة منها بسلا العالمة بضفة ابي رقراق الشمالية، سيدي ابن عاشر، سيدي عبد الله ابن حسون، سيدي موسى ومساعدته لالا عيشة البحرية، سيد اليابوري … والكثير من الأضرحة الحافظة للتاريخ والذاكرة نعم، لكن ابتدعت بها طقوس وسلوكات خرافية، مستعصية على الفهم، ضاربة في الوهم، سارية باقية .. عصية على التغيير، منسوجة بخيوط عادات بالية، مسيجة بمنظومة إجرائية، وسلوكات موروثة نمطية، تخفي وراءها عوالم مركبة معقدة خافية، من أمراض نفسية وهسترية، ولوبيات استغلال ودجل وزبانية. هروب من ألم، بحث في عوالم الجن عن حل، توق لما فوق الممكن، استحمام بزبد البحر في الحفر بحثا عن زوج أو ولد، ذبح ديكة سود، وإطعام البحر بخبز معجون بزيتون أسود وسقي للصخر بالحليب. شطحات غير مفهومة، زفرات متكررة محفوظة، وتخبط تلقائي وفلكلوري، ومشعوذات وعرافات " ضريب الخط" ووسيطات بركة، وصبايا جميلات تشحن مشاعرهن بالوهم، ولوبيات سمسرة تستغل الهشاشة النفسية والدينية فتبسط "خدماتها" مدعية، وايضا متشردون و"الشماكرية"، ومعجم خاص بكلمات محسوبة وشفرة خاصة ( التسليم، سر المكان، العكس، محسودة، متخطية، متبوعة، ساحرين ليه، داخل بيبان … )، حتى الألوان لها دلالات، وملوك الجن السود غير الحُمر. قمنا بزيارة ميدانية، واستطلعنا بعضا من الطقوس السارية، ما كنا نعتقد أنها باقية، فوقفنا على حالات يتضح فيها استيلاب للمشاعر، ويضغط فيها الوهم على البصائر، وحالات لاستغلال واضح ظاهر، وسطو على العقول ولعب بالمصائر، وعدنا لنستفسر أهل التخصص ونجيب على أسئلة علقت بالخاطر ..نبسط بين أيديكم "الروبرتاج "في محاولة لفك الطلاسم، ونعيد تركيب المشاهدة ومتغيرات المعادلة. الجميلة "المملوكة" دخلت ضريح سيدي ابن عاشر، تلبس جلبابا أخضرا فاتحا، وفولارا بنفس اللون، توجهت لزاوية وجلست القرفصاء، وضعت رأسها على الحائط وبدأت تجوب بعينيها يمينا وشمالا، جميلة وشابة. وجهنا لها سؤال في محاولة للتقرب ومعرفة قصتها، فأجابت بنبرة جافة "اسبق شفتيني هنا؟"، حين نفينا الأمر قالت" أنا مريضة ومريضة بزاف" وكأنها تحذرنا منها، بقيت جالسة تقريبا ربع ساعة، فحدث ما لم نكن نتوقع أن نراه، وبدأت تصدر أصواتا غريبة وتصرخ بصوت ضخم محشرج " شيياه اعيشة، وانا مسلمة، أنا مسلمة .."، "لا لة عيشة وأنا مسلمة، " ثم تسكت قليلا وتعيد كلمات متقطعة "أنا معكم بشرع الله" "ما كاين غير الله والموت". كان كل المكان هادئا إلا من صراخها، بعدها قامت وبدأت تطوف بقبر الوالي وكأنها في طواف الوداع بالكعبة، بدأت تطوف بخطى بطيئة وثابتة بعدها بدأت ترفع من سرعتها إلى أن بدأت بالجري، تركض طوافا لا أحد يستطيع أن يوقفها، تثير الرعب. تحتاج هنا لرباطة جأش عالية كي تفهم ما يجري، سألنا سيدة كانت تجلس بالجوار، قالت "ماشي لخاطرها مسكينة، مملوكة"، كانت الفتاة تصرخ بين الفينة والأخرى بصوت غليظ لا يتناسب وقوامها الرشيق، وتغير ملامح وجهها بطريقة لا تناسب وسامتها، تردد "العفو، راني عييت"، وتضيف ما معناه " المشعوذات والمشعوذين الساحرات والساحرين، العرافات المقطوع يديهم من الرحمة، حنا معاكم بشرع الله والنبي رسول الله" ثم تقول" أنا مزاوكة، أنا مزواكة، عييت، باركا، مسلمة " وتتبع الصراخ بزفير حاد"اوف، ونا مزاوكة، شياه"… كان أغلب من بالضريح يدعو مع الجميلة "المملوكة"، ويقول "مسكينة، الله يطلق سراحها"، و قالت لنا امراة "راه كدوز شرعها". يعتقد هؤلاء جميعا أن الجميلة تعرضت للشعوذة والسحر ماجعل الجن يريدها، وهي تحاول عبر هذه الطقوس التخلص من هذا التملك، وتحاول عدم الاستسلام لطلبات الجن. توجه لغير الله أغلب من يدخل المكان، ينفي حين يسأل أنه يعتقد بقدرة الوالي ويُبرّر زيارته له ب"التبرك" والبحث عن "الراحة"، أو يعتقد أن الوالي "وسيط" له بركات، لكن ما شهدناه من نسوة ببن عاشر يقول غير هذا، سمعنا المرأة تقول "أسيدي ابن عاشر وراك عارف وعالم" ، وسمعنا أخرى تردد "اهيا سيدي ابن عاشر جود علي"، وأخرى تقبل القبة وتدعو "افك وحايلي،راني تقهرت وتقضا جهدي" ، فيما تمددت واحدة على الأرض وبقيت تتحرك في مكانها بهدوء لتزداد حركتها وبدأت بالتخبط، والزفير والمناداة على "ابن عاشر" ولما انتهت من طقوسها، كان وجهها يتصبب عرقا. حكت لنا زائرات أن المكان تغير، وأن الأشغال التي تقام أمام الضريح منعت من تنظيم "الحضرة" التي يقصدها "المملوكون" بكل أنواعهم، وأضفن أن في تلك "الحضرة" تعزف الموسيقى بإيقاعات مختلفة يعرفها الجن، فيظهر في كل "مملوك" من الذين يرقصون بحسب طقوس الحضرة، ويسقط أرضا "كيقضي شرعو ويرتاح"، و أنه يختلط في الحضرة كل ملوك الجن وقد يحضرون مجتمعين. ربما يجتمع هنا ضغط العنوسة، و ضغط الحرمان، وضغط وهم "التملك"، لكن المؤكد حضور ضغط الفراغ والجهل على الناس، يتجاوزهم أحيانا، فيتيهون في كل الدروب، ولم يعد مستغربا أن ترى أناسا من طبقات معينة تزور الضريح مثل المثقفات وخريجات المعاهد، وبنات يلبسن أحدث موضى، ونساء يظهر عليهن الثراء. وارثة سر "ابن عاشر" دخلت الضريح بثقة كبيرة، جاءت أمام "القبة" قبلت وتمسحت وطلبت التسليم، في مقتبل العمر ممتلئة الجسم، شمرت عن ساعديها واتكأت بالأرض ساندة رأسها لقبة الضريح، وبدأت هي وامرأة أخرى يتحدثن عن قصص نساء عالجتهن من العقم، وبنات زوجتهن، وهدايا وكرامات، قالت أن سيدي ابن عاشر "اعطاها الخبزة" حين كانت صغيرة، وأنها لم تصدق في البداية، إلا أن بدأت تظهر نتائج "بركتها "، تقول في تناقض "هادشي حرام، محال واش ندخل قبري"، ولكن ما كرهتش، الناس تلجأ لي، ولا أستطيع ردهم"، لتجيبها صديقتها "انت كتجري غير في الخير" فأجابتها " في الخير والشر، لي دار معايا زوين ربي ما كيخبوش، ولي مشى قضا حاجتو، وولدات ونساتني كتحفر ليه قبرو، ولي تزوجات ونساتني راها في المحاكم وباقية المحاين تجيها" .. هي تولد العاقر، وتزوج العانس وتجلب الرزق وتبعده، وتفرق الزوج عن زوجته، وتميت الرضيع، كل هذا تدعي الخمسينية أنها تملكه وان ابن عاشر هو من وهبها هذا، لكن المصيبة أنها تجد المئات ممن يصدقنها، و يخضعن لجهالاتها. هاربون من "الواقع" انزوت وحيدة، وضعت "قب جلبابها" فوق رأسها يغطي عيناها، وجمعت ركبها بيديها وجلست تنتحب حينا، وتبكي أخرى، وتصمت طويلا، كانت ترقب ما يجري، تستمع لحكايات النسوة، لم تكلم أحدا طول مقامها، إلا أن اقتربنا منها مواسين وقلنا لها "لنخرج قليلا لعل الهواء العليل بالخارج يفيدك"، استجابت وحكت لنا، دون أن تعرف هويتنا، تفاصيل قصة مختلفة لاعلاقة لها لا بجن ولا بسحر ولا بركات، المسكينة هاربة من ضغط انحراف إبن جرب كل دروب الإدمان، اتعبها وغُلبت على أمرها فجاءت إلى المكان تبحث عن لحظة هدوء. سيدة أخرى، رافقتنا منذ دخلنا الضريح، ولم تكف طيلة الزيارة على سرد مشكلاتها مع أخوات زوجها اللواتي سحرن لها مستخدمات حذاءها " خدموني في الصندالة" وفرقنها عن زوجها، لتعود عند أمها، التي ماتت، وتركتها مع أخوات عانسات، وأخ سكير "كياكل وينعل"، حكايتها متشعبة لا تنتهي، جاءت الضريح وأخذت رقم هاتف لعراف من عند وسيطة مندسة وسط الزائرات، تقدم الاستشارات وتوزع هاتف مشغلها. شخص في الخمسينات من عمره يدخل الضريح ويخرج مرات متعددة، ترافقه أخته، تحكي أنه مريض "في عقله" طال علاجه، فترك الدواء، قالت تحضره كل جمعة ويُعجبه المكان. شاب لعله في العشرينات أو أقل، دخل الضريح ذهب إلى مكان فارغ بإحدى الزوايا، انبطح على ظهره واستغرق في النوم. رجل آخر رفقة ابنيه ، دخل الضريح، انزوى صلى ركعتين مع ابنيه، جلس قليلا، وغادر. رجل آخر دخل ومعه كيس من الخبز، فرق خبزة على كل الحاضرين. حملنا خبزتنا معنا، وغادرنا المكان، وأسئلة عديدة تملأ رؤوسنا. سيدي موسى يروي رواد الضريح أن تخصصه فك "الثقاف" بكل أنواعه، والثقاف هو إما عجز جنسي أو "عكس" يسبب العنوسة، أو يسبب العقم، وتحاك حول الضريح مجموعة من الأساطير قديمة، قد يبدو للوهلة الأولى أنها بدأت تتلاشى وتتراجع، إلا أن العديد منها عصي على التغيير، صامد في وجه الزمن كما صخور البحر الذي ينتصب أمامه الضريح. موعد عيادته الاثنين حيث كانت تقام الحضرة. وتساعد سيدي موسى في مهامه لالة عيشة مولات الحفرة ذ، ارتبط اسم الضريح بحفر بالبحر لها أسماء وصفات منها "القصيعة" و"البريمة" كانت تقصدها النساء رفقة بناتهن العوانس ذ كي " تتفجر عليها الموجة سبعة مرات" ، ويشهد المكان عن حوادث غرق متكررة ذ، تلقى هي الأخرى تبرير مفاده أن المكان أراد المَعنية، وأن "مواليها أقوى من وسيط الموج". زرنا الضريح في يوم الاثنين، لم نجد الحضرة لكن وجدنا "شمكارة" بكل جوانب الضريح، وخصام على جنباته. اشترينا ماء الزهر والشمع والند، فتحنا جهاز المسجل في الحقيبة ودخلنا الضريح، طفنا ثلاث مرات حتى نرى ما يجري، كان الضوء خافتا جدا، والمكان رهيب، ورائحة البخور والند وصياحات من أماكن مختلفة، أثار انتباهنا وجود الرجال والنساء والشباب والشابات، هنا الكل يطوف أو يجلس القرفصاء ويصرخ بين الفينة والأخرى، ومنهم من يتجشأ بأصوات ظاهرة. شاب طويل ضخم الجسم مثل عيروض الأسطورة يلبس سلهاما أحمر مكتوب ومزخرف، ويطوف وراء شابة يقوم معها بطقوس غريبة، يظهر على الشابة أثر الغنى والعصرنة، تلبس سروال جينز وبوط على الموضة، وقميص أزرق ضيق عند الصدر، شعرها مجموع بطريقة تترك بعض الخسلات على وجهها، تحمل ماء الزهر والند وتطوف متأثرة، راجية طالبة فك "ثقاف" طالها. أخبرتنا زائرة هناك تبدو عارفة بما يروج بالمكان "سيدي موسى كيفك "الثقاف" قلنا "ثقاف الزواج" ، قالت بل جميع أنواع الثقاف .. الزواج والعجز الجنسي والعقم" ، وهنا فهمنا لماذا يوجد بالداخل رجال. تعويم البنات بزبد البحر حين خرجنا من الضريح اقتربت منا سيدة ذات جلباب بالي وجثة ضخمة تربط رأسها بفولار للخلف يظهر ضخامة رقبتها، قالت "مشيتو للحفرة" "آش جابكم" ،يبدو أن المرأة وسيطة تتصيد الفرص، رفقناها بعد ان اشترينا "الفتوح" وهو حناء مخلوطة وحليب وماء زهر وشمع، قالت "انتما وجودكم بغيتو الذبيحة هاهي" فانتبهنا أن بالمكان يباع دجاج بلدي أسود، اكتفينا بالفتوح على أساس أننا سنعود بالمرة الموالية ونقوم بكل الطقوس، رافقتنا للحفرة، وهناك رأينا ديكة سود وخبز بالزيتون الأسود يتلاعبه الموج، ومن الديكة الموضوع فوق الصخر(تحت رقابة من سيستعمله فيما بعد)، حليب يسكب على الصخر وبقايا ملابس داخلية. والذي يرعب بالمكان وجود شباب "شمكارة" تظهر عليهم علامات الانحراف، منهم من يُظهر دراعه أثر تمزق لحمه، ومنهم من يدخن، ومن يحمل معه قارورة خمر، ومن يأخد الشمع من الزائرات يشعل واحدة ويعيد بيع الباقي. اقترب منا شاب يحمل بيده صخر صغير مصقول ويقول " تشري لدون؟" مضيفا "كون شريتي مني هادي احسن ليك من هاديك الشوافة". أخر طلب منا المال قائلا " ما لنا راه احنا لي بنادم وأحياء". سألنا الوسيطة عن الطرق التي يجب أن تنبعها قالت "بغيتو نعاومكم نعاومكم "، سألنا كيف يمكن أن نستحم في العراء قالت "بالداخل توجد حفرة محصنة من لالاعيشة مولات المكان طلبوا التسليم، ندخلكم ونعاومكم بهداك الماء، مشيرة إلى حفرة دائرية يرتطم عندها الموج ويبقى فيها الزبد أبيض ظاهر، كنجيبوه بالسطل ، ديري النية ويقضي ربي غرضك". عرافات يرمين الشباك غير بعيد عن الحفرة تجتمع النسوة في دوائر فوق الصخر، وتصطف بعضهن في طوابير، اقتربنا وجدنا عرافات "كيضربو الخط" ، قصدنا "الصحراوية"، ومرة أخرى ضبطنا جهاز التسجيل، ولعبنا دور الزبونات تشتكين من "العنوسة وقلة الزهر"، قدمت لنا "تسابيح " اسود، قالت ضعي فتوحك على قلبك، اي ضعي المال على الصدر قبل ان نسلمه لها (ثمن العيادة 20درهما، وانت وجودك) ، فركت التسابيح بين ايديها وبدأت تدمدم بكلام عام "تخمام على كل جهة وكل طريق تعصبات كتسلط عليك ما تسمعي لا هضرة ولا كلام، تقلقتي شوية وتغيرتي في الخاطر، كتمرضي ساعة ساعة "، تسأل أسئلة محددة ومنها تبدا باجابات عامة "كتخممي على امورات كثيرة، هضرة وكلام بينك وبين شي حد وبقا فيك الحال، اشنو خارج ما بين ايديك"… "مسكينة ماعارفو والو و ماقبطة حتى طريق" لتخلص في الأخير إلى القول "عندك لرياح وعين بنادم " و "شي حد هاهو غير قريب ورامي عليك العين (فسحة امل ) عندك بنادم كيدوي. البرودة لي مسلطة عليك بسبب مشاكل وطرقان، والله ياخذ الحق، حاجتك فايتة مرفودة والله ياخذ الحق، كتعطي حوايجك، مخدومة في حوايجك وكيجيك العكس"… "عندك الحمر (اشارة الى ملوك الجن) واش ما كتشوفي حد كيوقف عليك، عندك الحمر ابنتي زايدينك" "حاسدينك وعندك الحسد والغيرة، شي حاجة تخطيتها او دزت عليها والله ياخذ الحق، مهمومة في قلبك وتقولي ما عندي زهر، عندك البرودة، الحمر كيقلبو عندك الاحوال". وهنا تبدأ برمي شباكها: " هاد شي ضروري خصو يتحل عندك، نبدا معاك ونوريك اش ديري احنا عزيز علينا نديرو الاجر" قدمت لنا رقم الهاتف ومكان وجوده وتابعت "لي بغيتي تجي عندي أو تزطمي سبعة الزطمات وناخذ من ترابك ونخدم ليك دابا مرحبا، لي بغيتي"، و تتدخل رفيقاتها في مساعدتها في خلق الطقس داعيات "الله يعميهم عليك ابنيتي "… تحرش واستغلال تستشعر أن هناك فئة واعية، تلعب على مشاعر الرواد، وتتصيد الفرص وتقتات على جهل وسذاجة السذج، في حركات منها الواضح ومنها الخفي، فترى مثلا كيف يدخل الحارس بسيدي بن عاشر وكأنه يتفقد المكان مراقبا، ويمرر يده فوق القبة يجمع ما وضع فوقها من شمع وند ويخرجه ليعاد بيعه من جديد، وكيف تأخذ الوسيطة "الفتوح" تستعمل القليل منه وتخفي الباقي وتعيد بيعه من جديد، وكيف يقترب المتحرشون من النساء في طقوس الحضرة، وكيف يقترب شاب يدعي انه مملوك ممن يجلسن معزولات " هو يعرف أنهن عانسات" ويبدأ بالحديث عن "اطلق سراحي، نقضي غراضي ونعمر داري "، ويحكي زوار أن فتيات تعرضن للتحرش المباشر بالاحتكاك بهن أثناء تأديتهن " شرعهم" كما يقال؟ ناهيك عمن تستحممن في سيدي اليابوري بالرباط والتي حكيت عنه حكايات لاتقل عن الذي يجري بسيدي موسى، تقصده في الغالب الفتيات، وتتعرضن للكلام الساقط من طرف شبان يحيطون بالمكان، حتى أن مجرد ذِكر الوجهة يكون داعيا للتحرش والمعاكسة، وحكى لنا صاحب الطاكسي أن اليابوري يحاط بشبكة مشبوهة من العلاقات ولوبي مرتبط بالدعارة، يستغل الثغرات والهشاشة العقدية والعلمية والنفسية للزوار، ماجعلنا نغير الوجهة ونكتفي ببعض الشهادات. لم يكن الولوج لعوالم الأضرحة وطقوسهابالأمر السهل، وتبقى الإحاطة بما ينسج فيها وحولها غير هينة، على عكس الولوج إليها وزيارتها، ليبقى السؤال مطروحا هل تغلق بعض الأضرحة ويتم التخلي عن "خدماتها" على غرار "بويا عمر"؟ هل تفكر القطاعات المعنية بالصحة النفسية للمواطنين من تعبئة هاته الاماكن وتوظيفها وجعل بها متخصصين يقدمون الاستشارة للرواد ؟ هل تقاوم طقوس التملك من طرف ملوك الجن السبعة مد العلم وأسرار العقل لعقود أخرى ؟ هل بالفعل يسيطر على تصرفاته، أم هي خرافات استعصت على التغيير، هل يزيد مد هذه الظواهر وسيطرتها على عقول الناشئة، أم ينتفض ضدها المعنيون ويكسرون طابوهاتها؟ زيارات قد تضاعف المعاناة يرى الأخصائي النفسي لطفي الحضري أن تسلط مجموع الطقوس على سلوك الناس وتفكيرهم يرجع، إلى أسباب عديدة منها، البحث عن الحل، حيث يتوقع زائر الضريح أنه سيجد حلا لمعاناته، من أجل الهروب من الألم، وهذا الاعتقاد تغذيه الثقافة الشعبية التي تعتقد بوجود الحل عند الاضرحة ، بالاضافة إلى الجانب المالي الذي يجعل التطبيب احيانا مكلفا، وأحيانا طويل المدة، ويضيف الخبير أن رواد الاضرحة يرون أن أصحابها مقربين من الله ولا يستعصى عليهم أمر. وأوضح الحضري أن الزائر احيانا يذهب معتقدا في الله عز وجل وفي حله لكنه بدل أن يلجأ إلى الله مباشرة يعتقد بوجود الوسيط، مشيرا إلى أن هناك نوع من التصوف يزكي هذا الامر ويعتقد بشفاعة الاولياء عند الله. وعن اعتقاد الناس بتملك الجن لهم قال الحضري، أن أغلبيتهم يبدأ عنده الأمر بمرض نفسي تنتج عنه سلوكيات غير طبيعية في المجتمع، ما يجعل مجتمعه أو هو نفسه يعتقد انه مصاب بالسحر أو الجن. وأوضح لطفي الحضري أن أي سلوك كيفما كان تتبعه طقوس تترجمه في الحقيقة، ويستتبع بسلوكات إجرائية تثبته، وبالتالي حين يذهب المريض للضريح او عند الوسيط ويطلب منه القيام بإجراءات سلوكية (الذبيحة، الرقصن الجذبة، لبس الاسود …) تجعل الشخص يشعرانه مطلوب منه شيء ويدخل ضمن "منظومة الحركة " وهي قاعدة علمية تثبت السلوك، وتعطي الشخص الاحساس بأن ما يقوم به فيه مصداقية. وطرح الحضري إشكال مطروح بكل هذه الطقوس وهو إشكال المسؤولية، حيث يشعر المريض أو المحيطين به بأنه غير مسؤول عن افعاله وسلوكاته، وبالتالي فكل اعماله مبررة، وهذا يغذي عدم المسؤولية عند المعني ( لا يعمل، لا يدرس، لا يتزوج ) دون اي تأنيب من الذات ولا من الناس، وهذا عكس الدين، الذي يطلب من الانسان الاجتهاد، والكد والعمل ومواجهة المشكل والبحث عن الحل وغيره ..، وأوضح أن هذا الامر يطرح للشخص في اي منصب وفي اي مستوى فيتوهم انه ناجح لكنه محسود ومتبوع، وبالتالي غير مطلوب منه النجاح لأن وضعه هو أقوى منه ويتجاوزه فكل المسؤولية موضوعة على الجن او الساحر او الحاسد. وعلى عكس ما يروج ان الاضرحة قد تساعد على الراحة النفسية وتقدم بدائل يقول الحضري أن الخبرة الميدانية أظهرت أن هناك امراض لا يتجاوز علاجها ستة اشهر مثلا، وتكون اصابة المعني خفيفة، لكن بزيارته الاضرحة قد تطول لسنوات وقد يستعضي علاجها فيما بعد، حيث يتعقد المرض النفسي، جازما انه لا يعتقد بهذا التخفيف ويرى الحضري ان نسبة الوعي بأهمية التطبيب النفسي عند الناس تزداد رغم ما يقال عن تهديد الحالة الصحية للمغاربة.