النداء الإلهي-الحلقة الأولى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الله تبارك وتعالى يتصف بصفات الكمال، وصفة الظلم من صفات النقص التي تستحيل في حقّه سبحانه، فإنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة قال تعالى:{وما ربّك بظلام للعبيد}، وقال سبحانه {و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم. فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحسب ما خانوك وعصوك و كذبوك، وعقابك إياهم،فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك. قالت عائشة: فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله: (ماله لا يقرأ كتاب الله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}. فقال الرجل يا رسول الله: ما أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء -يعني عبيده-إني أشهدك أنهم أحرار كلهم. هذا الحديث الذي يبين تمام العدل الإلهي وكماله، خصوصاً فيما يتعلق بتعامل الناس بعضهم مع بعض، وهو الديوان الذي ينشر للعبد يوم القيامة،ولا يترك الله فيه شيئا! حتى إنه سبحانه يقتص للشاة الجلحاء(بدون قرون) من الشاة القرناء، ثم يقول لهما: كونوا ترابا. أما ديوان علاقة العبد بربه عز وجل، وهو الثاني الذي يُنشر للعبد يوم القيامة، فإن الله تبارك وتعالى يتعامل فيه بالإحسان مع المؤمن، فيتجاوز عنه ويعفو عن الكثير، وهو مجال رحمته الواسعة ومغفرته وعظيم عفوه. أما مع الكافر، فيتعامل سبحانه بالعدل، فيقال له: {ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين}. نعم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، لأنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، وهو أصل عظيم من أصول الدين، ومع تكذيبهم به، يسألون عن فروع الدين كالصلاة، وإطعام المسكين، والخوض مع الخائضين،ويشمل ظلمهم للعباد. حتى أن الله تبارك وتعالى من تمام عدله يقول يوم القيامة-كما جاء في الأثر-لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله مظلمة لأحد من أهل النار حتى اقتص له منه.ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار و له مظلمة لأحد من أهل الجنة حتى اقتص له منه!! فالحذر الحذر من ظلم العباد: كفارا كانوا أو مؤمنين. ومن وقع في شيء من هذا فليبادر بطلب العفو ورد المظالم إلى أصحابها اليوم، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، وإنما هي الحسنات والسيئات: عملة الصرف الصعبة يوم لا ينفع مال ولا بنون. كما جاء في الأثر: أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له! فقال لهم النبي: المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة و زكاة وصيام وحجّ، وقد شتم هذا وأكل مال هذا وظلم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ هذا من حسناته. حتى إذا لم تبق معه حسنة، أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم يطرح في النار!! عياذاً بالله. ولهذا جاء في الحديث العظيم: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا . وبعد، فقد أحدثت في هذا العصر آليات متعددة لمقاومة الظلم ، منها مجلس الأمن الذي يفصل في النزاعات بين الدول، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحكمة لاهاي الدولية والميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية التي تقض مضاجع الطغاة، وجمعيات المجتمع المدني المتنوعة، منها الجمعيات النسوية التي تعنى بحقوق المرأة، ومنها جمعيات حقوق الطفل، وأخرى تهتم بالمعاقين أو المسنين، وعموما الضعاف من بني آدم. ولا يسع المسلم في هذا العصر إلا ان ينخرط في هذه الحملة على الظلم والظالمين، لفضحهم ومحاصرتهم والتنديد بمسلكياتهم البربرية، دون أن ينحرف عن عقيدته أو يتخلى عن مرجعيته، وله في حلف الفضول الذي أحدثته قريش في الجاهلية لمناصرة المظلوم، ونوه به رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وعبرة. إلا أن الملفت للنظر، أنه مع اشتغال هذه الآليات لمحاصرة الظلم والطغيان، فقد استشرى في عصرنا بصورة ربما لم تعرفها البشرية خلال مسيرتها التاريخية الطويلة. ذلك أن الطغاة الكبار تفطنوا للأمر، فعملوا على تحريف المسار الذي من أجله أحدثت هذه الآليات، بل ربما جعلوها غطاء لجرائمهم ووحشيتهم وعدوانهم، فكم من القرارات في مجلس الأمن اتخذت باسم الكبار للتدخل في شؤون المستضعفين ونهب ثرواتهم! وكم من القرارات ألغيت باسم الفيتو،لأنها لا تروق اللوبيات المتنفذة في إدارة الطغاة! وكم من الأسماء أفرغت من مضمونها، وألبست مفاهيم أخرى للحد من فاعليتها أو لتسويغ الظلم على البلاد والعباد!. فالمقاومة في فلسطين أو العراق أو الشيشان أو أفغانستان أو كشمير أصبحت تسمى إرهاباً! وجرائم الاحتلال من قتل وتشريد وهدم للمنازل ونهب للثروات تسمى تحريراً أو دمقرطة الشعوب الهمجية! وربما سميت دفاعا عن النفس، كما هو الشأن في أرض الإسراء والمعراج! ما الفرق بين فرعون بني إسرائيل وشارون العرب؟! وما الفرق بين خدمة هامان لفرعون، وخدمة بوش الصغير لشارون؟!. هل يجرؤ الحاكم الأمريكي بعد اليوم، أن يعرّي سوءة الظالمين، وغرائب أبو غريب تحاصره؟! إن هذه الجولة للظلم والطغيان لن تدوم بإذن الله، لأن الحق أقوى، والعدل ضرورة فطرية قبل أن يكون ضرورة اجتماعية.. والكلمة الأخيرة تكون للشعوب، وستلعن الأجيال القادمة في أمريكا بوش، يوم تطالبها الشعوب الضعيفة اليوم، القوية غداً، بتقديم الحساب، وتحمل أخطاء حكامها القدامى!. فالذي لا يقرأ التاريخ لا يعتبر، فهو مزهو بقوته، يصول ويجول، مع العلم أن القوة والعزة لو دامت لغيره لما انتقلت إليه! {و تلك الأيام نداولها بين الناس }، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). د.أحمد الشقيري الديني يتبع