رغم أن كثيرا من اللاجئين والمهاجرين الذين يغرقون قبالة السواحل الإيطالية واليونانية أو يرابطون في مدينة كاليه الفرنسية على أمل التمكن من التسلل إلى بريطانيا هم من العرب والمسلمين، وخاصة من السوريين والسودانيين والأفغان والباكستانيين، فإنه لم يسجل بالغ اهتمام بهم من قبل المنظمات الإسلامية الناشطة في بريطانيا، ناهيك عن الدفاع عن قضيتهم لدى السلطات المركزية في لندن. صحيح أن الجالية العربية والإسلامية تبدو في العادة غير مكترثة بالشأن الإنساني العام. ولكن بما أن الصحيح أيضا أنها تنتبه في بعض الحالات لما يتعلق بالشأن العربي والإسلامي، فقد كان الظن أنها ستنشط في قضية هؤلاء اللاجئين على الأقل من منطلق عاطفة الانتماء. في مقابل هذا «اللا-موقف» الذي تبديه الجالية العربية والإسلامية، تبرز حقيقة مدنية واضحة في بريطانيا: وهي أن معظم المنتقدين لمسلك السلطات مع أزمة اللاجئين والمهاجرين غير القانونيين إنما ينتمون عموما إلى صنفين: إما أنهم من أبناء وأحفاد اللاجئين الأوروبيين الشرقيين الذين وجدوا ملاذا في بريطانيا منذ العقود الأولى من القرن العشرين، أو أنهم من اليهود. وإذا علمنا أن معظم اليهود البريطانيين هم أيضا من أبناء اللاجئين أو أحفادهم، تبينت صحة ما قالته للبي بي سي تلك السيدة الألمانية الأصل التي أتت إلى بريطانيا لاجئة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. كانت طفلة في الرابعة من العمر لا تعرف أحدا ولا تكاد تدرك شيئا. ولكن أهلها الذين لم يكن في وسعهم الفرار من القبضة النازية كانوا يعرفون أن النجاة ستكتب لابنتهم لو أنهم تمكنوا من تدبير أمر وصولها إلى بريطانيا. وهكذا كان. تقول هذه السيدة التي أنشأت إحدى أنجح شركات التكنولوجيا في بريطانيا: «لقد تبناني آنذاك أناس غرباء فصاروا لي أهلا وصرت لهم بنتا وصارت هذه بلادي التي أحب. كيف يمكن لهذه البلاد المفعمة قلوب رجالها ونسائها بالبر والرحمة أن تدير الآن ظهرها للمنكوبين من اللاجئين والمهاجرين؟ لقد استوعب الأردن ولبنان وتركيا مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، واستقبلت الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا والسويد، عشرات الآلاف. فماذا بذلت بريطانيا؟ إنها تتشدق بأنها استقبلت مائتي لاجىء. مائتين؟ يا للخزي! يا للعار! ليس لي من تفسير لقسوة قلب ديفيد كامرون وغيره من الساسة، سواء في الحكومة أم المعارضة، إلا أنهم ليس عندهم أدنى إدراك لمحنة اللجوء وأثرها المدمر في النفس. ليس عندهم معرفة بما يكابده اللاجىء من ألم ومهانة ويأس، لا يعرفون أن التشرد هو آلم ما يحتمله الشرط الإنساني من ألم.» هذا التلازم بين دقة المعرفة وإنسانية الموقف هو السياق الذي تتنزل فيه الرسالة التي وجهها «المجلس اليهودي للمساواة العرقية» إلى رئيس الوزراء البريطاني ينتقدون فيها «سوء» معالجته لأزمة لاجئي كاليه. فقد جاء في الرسالة التي وقع عليها حوالى مائتي شخصية يهودية، كان بينهم عشرون حاخاما، أن «كثيرا منا، نحن أبناء الجالية اليهودية، مستاؤون من رد بريطانيا على مجريات الوضع في كاليه. إن تجربتنا في اللجوء ليست موغلة في الماضي إلى حد يمكن أن ينسينا ما يعنيه أن يكون المرء منبوذا موصوفا بكل الشرور لمجرد أنه مستجير يطلب الأمان». وأكد «المجلس اليهودي للمساواة العرقية» أنه لا ذنب للهاربين من الحروب والاضطهاد في تفاقم الأزمة الحالية في كاليه، كما أنه لا يمكن تحميل مسؤولية هذه الأزمة لنظام الرعاية الاجتماعية البريطاني (أي طمع اللاجئين في العيش على نفقة الدولة البريطانية)ولا للحكومة الفرنسية. وأضاف أن البريطانيين ليسوا ضحايا في هذه المسألة، وأنهم لا يتعرضون لغزو «الجحافل» (في غمز من قناة كامرون الذي سبق أن استخدم هذه الكلمة في الحديث عن اللاجئين). ومعروف أن بريطانيا آوت، عامي 1938 و1939، حوالي عشرة آلاف طفل تم إجلاؤهم من ألمانيا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، وكان معظمهم من اليهود. وكان من ضمن هؤلاء الأطفال الناجين الفنان فرانك أورباخ، الذي يبلغ الآن 84 عاما من العمر، وعضو مجلس اللوردات عن حزب العمال اللورد دبس البالغ 83 عاما. وكان نيكولاس ونستون، الملقب ب»شندلر البريطاني»، من أنشط جنود الخفاء آنذاك. فقد أنقذ 669 طفلا يهوديا بتنظيم ثماني رحلات لهم إلى بريطانيا انطلاقا من محطة القطارات في براغ. توفي هذا الفارس النبيل، الذي أبقى مأثرته طي الكتمان على مدى نصف قرن، في نهاية حزيران/يونيو الماضي عن عمر يناهز106 أعوام.