تذمر رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون من محاولة عدد متزايد من المهاجرين دخول بريطانيا، بطريقة غير مشروعة، عبر القنال الإنكليزي، داعيا إلى إلى تعزيز اجراءات حماية الحدود والى بناء المزيد من الأسوار لتحذو بريطانيا بقية الدول الأوروبية في تحصين نفسها ضد المهاجرين ومعظمهم من أفريقيا وبلدان المشرق. هذه واحدة من خطوات سياسية عدة أثبتت فشلها، لسبب بسيط وهو التعامي عن رؤية الأسباب الحقيقية للمشكلة والاكتفاء بحلول سياسية دعائية. واذا ما تركنا جانبا حقيقة أن بريطانيا هي الأقل استقبالا للمهاجرين بين الدول الأوروبية، وأنها الأكثر استفادة من المهاجرين في بناء وتنمية البلد التي لولاهم لكانت بريطانيا العجوز مركونة في مأوى للعجزة، لوجدناها، لاتزال كما كانت منذ عدة قرون، الدولة الأكثر استغلالا للشعوب ومساندة للأنظمة الاستبدادية، خاصة، في الشرق الأوسط. أنها الدولة التي تستحضر صورة الطاغية نيرون الذي حرق روما ووقف يعزف الموسيقى على نيران هدمها. وما لم تقف بريطانيا، كما بقية الدول الغربية، أمام المرآة لترى صورتها وهي تخلق مأساة المهجرين، فلن تفيدها مئات الأسوار التي تحيط نفسها بها. بل ستنتهي، على الأغلب، سجينة ذات الأسوار التي بنتها متوهمة حماية نفسها. ولننظر إلى ماسيقدمه المستقبل القريب لبريطانيا، والغرب عموما، ويدق اسوارها بمنجنيق الأسلحة التي ساهمت بصناعتها وتصديرها إلى تلك الدول التي ظنتها، حتى وقت قريب، بعيدة، نائية، تتقاتل شعوبها فيما بينها، بينما ينعم الغرب بالسيطرة عن مبعدة والفرجة باستمتاع، جلوسا على مدارج حلبات الصراع الوحشي. لنبدأ أولا بفلسطين ومهاجريها منذ ستين عاما ويزيد. خمسة ملايين لاجىء لايحق لهم العودة إلى بيوتهم المصادرة من قبل كيان مشوه يسنده الغرب ويعتبره معه في قمة الحضارة البشرية. هذا الكيان ينمو على قاعدة مصادرة حياة بقية الفلسطينيين، يوميا، واحفاد الجيل الأول من لاجئيهم الذين يشردون من مخيماتهم الأولى والثانية فالثالثة في البلدان التي استضافتهم سابقا. ففلسطينيو الشتات العربي يطردون، مرارا، مع بقية الجماهير العربية المطرودة من قبل حكام يدعمهم الغرب كما يدعم خصومهم اياما ويحاربهم اياما اخرى. والشباب الفلسطيني، كحال بقية الشباب العربي، منجذب إلى الهجرة برا وبحرا وموتا، او للهجرة السياسية البطولية الاخرى للجهاد بعد ان سدت بوجهه بقية الأبواب. آخرها أغلاق متنفس الأنروا تدريجيا عبر امتناع الدول الغربية، المسؤولة عن قيام اسرائيل، عن دفع التزاماتها المادية على ضآلتها. اذ ان أمريكا تدفع 75 دولارا لكل لاجىء فلسطيني سنويا بينما تدفع لكل اسرائيلي ما يزيد على الألف دولار ومليون دولار لكل مستوطن يهودي روسي، حسب سلمان أبو ستة، رئيس مركز أرض فلسطين بلندن. لنمرعلى العراق ثانيا حيث وقفت بريطانيا كتفا بكتف مع أمريكا، في غزو مبني على أكذوبة اسلحة الدمار الشامل قبل اثني عشر عاما. فجلب الغزاة الإرهاب والدمار. سببوا قتل ما يزيد على المليون مواطن وتهجير ونزوح الملايين، ولايزال القصف القاتل والصمت على جرائم النظام الذي زرعوه مستمرا. وقد تلاعبوا بإدعاءات توازن» المكونات الاثنية والمذهبية» المفترضة والحقيقية مع نخب فاسدة، بجميع أنواعها، من تلك «المكونات»، وتمت تصفية الإحتجاجات السلمية، فلم يبق امام الشباب الرافض للإنخراط في الصراع الدامي غير الهجرة. ولنتوقف في سوريا، حيث الصورة العراقية نفسها أوهي أقسى. هناك 4 ملايين مهاجر وما يزيد على سبعة ملايين نازح داخل البلد. أي نصف السكان. استقبلت اوروبا ربع مليون لاجىء والبقية في خيام ومعسكرات الدول المجاورة. هذه المأساة المخيفة في لا انسانيتها هي غيض من فيض، فالمأساة أكبر بكثير إذا ما تطرقنا إلى حملات الهجرة والنزوح من بقية البلدان العربية أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، من غزو وحروب تمتد من السودان والصومال إلى اليمن. ان مسؤولية الغرب في خلق حالة الهجرة والنزوح القسري، ماضيا وحاضرا، حقيقة، لا يمكن التعامي عنها. فالقلة فقط من المهاجرين من فلسطينوسورياوالعراق، مثلا، غادروا بلادهم لأسباب اقتصادية. وأول ما يحلم به المهجرون هو العودة إلى بيوتهم وأرضهم وأهلهم ومدارس أطفالهم. أي كل ما حرموا منه لأسباب فُرضت عليهم. السبب الرئيسي هو السياسة الغربية في التوسع والهيمنة الامبريالية، في تسويق السلاح، في الاستيلاء على ثروات وموارد الشعوب، في توفير الحماية والأمن للقيطة اسرائيل، عبر استثمار النزاعات والغزو والحروب. وما كان هذا سيتم لولا وجود حاضنة الامبريالية في البلاد العربية، أي الأنظمة الاستبدادية، حتى بات من الصعب الفصل بين تشابكات ثنائية الاستبداد الداخلي وهيمنة العدو الخارجي. وبينما تتناثر اشلاء الشعوب بأسلحة الدول الكبرى وإرهابها المتبدي بأشكال مختلفة، من بينها الطائرات بلا طيار، يقف رؤساؤها ودعاتها متباهين بما يقدمونه من مساعدات « انسانية» للشعوب. نوعان من المساعدات: «مساعدات» معنوية يسمونها تحريرا وبناء الديمقراطية، و»مساعدات» مادية لا تتجاوز نسبة ضئيلة مما نهبوه أو ربحوه من الشعوب ذاتها. المساعدة «الانسانية» التي تقدمها الحكومة البريطانية للشعب العراقي، مثلا، هي 23 مليون جنيه لعام 2014، لتوزع على خمسة ملايين شخص بحاجة إلى المساعدة حسب قسم التنمية الدولية البريطاني. هذه الأرقام للمساعدات الإنسانية مقاربة لما يعلنه الأمريكيون والأوربيون للعراق وسوريا وبقية بلدان الحروب الأهلية التي يتحملون هم مسؤوليات إبتدائها. وهي لا تزيد عن تكاليف نصف ساعة، مما تنفقه الولاياتالمتحدة في ميزانيتها العسكرية حسب موقع مشروع الأولويات الوطنية الأمريكي الذي يتابع هذه الأرقام منذ 30 عاما. أن الحكومات الأوروبية تتحمل الآن وزر تلك الصناعات الحربية والأذرعة العسكرية والشركات الأمنية والتقنية الحديثة، ونسبة كبيرة منها أوربية، التي تدفع باستمرار نحو الحروب، لتجني آلاف المرات بقدر المساعدات الإنسانية التي تعلنها. ويمكن قياس ما تصرفه بريطانيا وبقية أوروبا على مصاريف أمريكا، سنويا، على حروبها في المنطقة. فالخمسة آلاف هجمة جوية أمريكية، في عام واحد، في العراقوسوريا، وتكاليف القواعد الأمريكية في المنطقة والمدربين للقوات العراقية والسورية والأردنية تقدر ب 5 مليارات دولار، وهي قليلة نوعا ما مقارنة بما دخل في نفس الجيوب التي اغتنت وتغتني من تريليونات الدولارات التي صرفت منذ 2001. ان أسوار كاميرون وغيره من زعماء اوروبا جزء من لعبة سياسية – إعلامية خطرة، يتم فيها تأجيج المشاعر العنصرية في اوروبا ضد الشباب المهاجر في نفس الوقت الذي يتم فيه استيعابهم التدريجي مع المؤهلات التي يمتلكونها. ومع استمرار السياسات الكولونيالية القديمة المؤججة للهجرة في بلداننا، وان بأسماء جديدة، سيكون من المستحيل على الغرب أن يحصد غير ما يزرعه.