قال تعالى:﴿وَاتْلُعَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الأعراف:175-176). استعملت مادة السلخ في الجلود، واستعملها القرآن المجيد في آية للخلق حين يسلخ النهار من الليل: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾(يس:37)، واستعمله (جلّ شأنّه) في الانسلاخ من آيات الله بعد أن يكون الله (جلّ شأنّه) قد أنعم على أحد بتلقي آياته، فينسلخ منها بسبب ضعفه، أو استجابته للشيطان عدوه أو لأي سبب آخر، وهذا أخطر أنواع الانسلاخ، الذي يجعل الإنسان مستحقًا تمام الاستحقاق لأن يكون جزء من وقود النار وحصبها؛ لأنَّه هدي إلى آيات الله، ومع ذلك فإنَّه قد انسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وهذا الانسلاخ من آيات الله جريمة في غاية الخطورة، يقول (تبارك وتعالى) ليبين لنا بشاعة تلك الجريمة:﴿ ثُمَّأَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾(فاطر:32)، فهناك قوم يصطفيهم الله، وينعم عليهم، ويؤتيهم آياته، حتى تحيط بهم من كل جانب، وتصبح لباسًا لهم: ﴿..وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ..﴾(الأعراف:26)، وجلدًا لهم، مرتبطًا بأجسادهم لا ينفك عنها إلا بأن يسلخ بقوة وبمعاناة. ولماذا يسلخ؟ أيسلخ للحصول على مزيد من النور والضياء؟ هيهات، فالنور والضياء معه إن أراد، لكنه ينسلخ من الآيات، ليطفئ ذلك النور، ويوقف ذلك الهدى، ويعطل تلك البصيرة، فيكون جزاءه أن يتبعه الشيطان فيكون له كظله، وهو عارٍ من كل شيء بما فيه جلده، الذي كان يحيط بجسده فيصبح عاريًا منه، منسلخًا عنه، مظلمًا، لا نور فيه، ولا نور له، ﴿..وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾(النور:40). قال لي صاحبي وهو يحاورني: لمَ نجد معظم شعوب الأرض اليوم في نوع من السعادة، وإذا وجدنا فيهم أشقياء فإنَّ شقاءهم أقل بكثير من شقاء شعوبنا وبلداننا، أنظر لكل ما يجري فيها واختر أي بلد منها، لترى أنواع البلاء، والظلام، والدمار، الذي تتقلب به شعوبنا، وبلداننا، فلماذا يستمتع الناس بحياتهم، ونحن نتمرغ في هذه الظلمات؟ والآيات الكثيرة تؤكد أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد تعهد بنصر المؤمنين، وبإعلاء كلمتهم على كل كلمة، مع كلمة الله وبعده، فما الذي حدث. قلت له يا صاحبي: عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء، إنَّ أمتنا بعد الاصطفاء، وتوريث الكتاب ونعمة الخيريَّة، والوسطيَّة، والشهادة على الناس، انسلخت من ذلك كله، وخرجت عنه، فكان مثلها كمثل ذلك الشخص الذي ضرب مثلًا لحالة أمتنا وأيَّة أمَّة أخرى سبقتها أو تلحقها، إذا انسلخت من آيات الله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الأعراف:175-176)، فذلك شأن هذه الآيات إذا أحسن حاملها استقبالها وأيقن بها، وأحسن الاستفادة منها، فإنَّها تتحول إلى نور له، يخرجه من الظلمات إلى النور، أمَّا إذا أساء استقبالها، وأساء حملها وانسلخ منها؛ فإنَّه لن يجد أمامه إلا الغواية، والشيطان رأس الغاوين وإمامهم، يدحرجه في مهاوي الهلكة، ودركات الهوان، حتى يوصله إلى قاعها وحضيضها، وتحق عليه كلمة ربه، فيكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين، فسنن الله لا تحابي أحدًا، والبشر كل البشر خلق الله (جلّ شأنّه)، وآيات الله هي آياته، من أحسن استقبالها فإنَّه يكون من السعداء، ومن انسلخ منها:﴿.. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الأعراف: 176). فالأمم المصطفاة تختلف القوانين والسنن بالنسبة لها عن الأمم الأخرى، فبما أن الله ميزها بالاصطفاء ومنَّ عليها بكلماته وآياته، ورسله، فتلك نعم لا تقدر بأثمان، ولا ينبغي أن يستهين بها إنسان، فمن فعل ذلك وانسلخ منها فعلى نفسه جنى، وللشيطان اتبع، وتنكر للنعمة بعد أن منَّ الله عليه بها، وتلبسته وكانت جلدًا له، وثوبًا، ورداء، فماذا عليهم لو آمنوا، واتقوا، وماذا عليهم لو تحلوا بلباس التقوى: ﴿..وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ..﴾(الأعراف:26)، وماذا عليهم لو آمنوا بالله ورسوله وأخلصوا دينهم لله، واتبعوا آياته وهداه، لو فعلوا ذلك لعاشوا حياة طيبة:﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(النحل:97). تلك هي مشكلة المشاكل أنَّ الأمم المصطفاة لم تدرك قيمتها، ولم تفهم حجم النعمة التي أنعم الله بها عليها، ولا التكريم الذي نالت، ولا العناية التي أحاطت بها، فكفرت بأنعم الله، وهذا هو الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة؛ لأنَّه قاصر على ستر النعمة، وإخفائها وعدم الإحساس بها، فضلًا عن شكرها، وأفضل خدمة يمكن أن يقدمها المنتمون إلى هذه الأمَّة أن يبثوا فيها الوعي على دورها ويوقظوها من غفلتها، ويعينوها على نفسها. والله أعلم.