بعدما خصصنا الحلقتين الأولى والثانية، للتعريف بالمسجد وتبيان دوره باعتباره الفضاء الذي اتخذه العلماء مقرا لدروسهم، ليدخل الجامع (المسجد) بداية مرحلة الجامعة، نتوقف اليوم مع "المسيد" باعتباره مؤسسة تربوية جد مهمة، في مسار أوحلقة تخريج العلماء، قبل أن نشرع في الحلقة المقبلة في استقراء آراء بعض العلماء وتقييمهم لأداء مؤسسة تخريج العلماء، ومع الدكتور أحمد الريسوني، أول ضيف على السلسلة. ظلت "المسايد" منارات للعلم في سماء بوادي وحواضر المغرب مستمرة في خدمة كتاب الله تعالى، ولعبت في الماضي، بالعديد من دواوير الجنوب المغربي، دورا هاما في الحياة الاجتماعية لدى الأهالي، وكانت جزءا من هوية المجتمع المغربي، فقد كان لها دور في تمتين أواصر الأخوة، والمواطنة والانتماء بين جميع ساكنة المغرب، خاصة بعد صدور الظهير البربري العنصري ل16 ماي 1930، مما مكنها من الحفاظ على الهوية والشخصية المغربيتي. وما زالت العديد من المناطق الجبلية بالمغرب، تتمسك ب"المسيد"، الذين يرون فيه هويتهم الدينية والوطنية، غير أن أدوارها اقتصرت اليوم على تعليم وتحفيظ القرآن الكريم بالاعتماد على الألواح الخشبية والصمغ. بينما تطور بعضها، خصوصا في المدن، وأصبحت تكنى بالكتاتيب القرآنية كما استفاد بعضها من الثورة المعلوماتية التي ساعدتها على تطوير أدائها في بعض الجوانب. وأوضح ابن خلدون بمقدمته الشهيرة في فصل عنونه ب"تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه"، أن "أهل المغرب يقتصرون على تعليم القرآن، وأهل الأندلس يخلطون بتعليم القرآن رواية الشعر والترسل، وقوانين العربية، وتجويد الخط، وأهل إفريقية يخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، وأهل المشرق يخلطون في التعليم كذلك". ويرى الأستاذ محمد حراز، في بحث علمي له منشورة بمجلة "دعوة الحق"، حول "النسق التربوي لنظام التعليم بالمغرب، مؤسسة الكتّاب نموذجا"، أن نظام التعليم الإسلامي عبر مختلف المراحل التاريخية للحضارة العربية الإسلامية، استطاع تشكيل ملامح الشخصية الذاتية للأمة، وتمكنت المنظومة التربوية الإسلامية من الرقي بالعقل المسلم إلى مستوى المسؤولية الحضارية، فكانت المؤسسات التعليمية المتنوعة تقوم بدورها الدؤوب في تخريج العلماء القادرين على التكيف مع المجتمع، بل القادرين على قيادته وتوجيهه توجيها حضاريا سليما مع المقدرة الكاملة على حل مشكلاته ومعضلاته الشائكة، فكانوا يزودون الأمة بالجديد النافع بشكل دائم ومستمر". ويؤكد الأستاذ الباحث في بحثه، على أن، "الكتاب، إحدى المؤسسات التربوية القديمة، وكانت تسمى كذلك بمصطلح «محضرة»، ويشهد التاريخ أن هذه المؤسسة ساهمت مساهمة فعالة في ميدان التربية والتعليم كما ساهمت في الحفاظ على مقومات وأصالة المجتمع المغربي". كما انتشرت هذه «الكتاتيب» و«المحاضر» في الماضي في البادية بشكل أكثر من انتشارها في المدن، مما يدل على أن التعليم كان حاضرا في العالم القروي بشكل جيد!! وهكذا كان المغاربة يتلقون عادة تعليمهم الابتدائي في المدارس القرآنية المسماة «بالكتاب» أو«المسيد» وفي كل قرية يوجد على الأقل «مسيد» واحد، بل وحتى في كل «دوار»