ثمة تخبط واضح في الساحة الفلسطينية والإسرائيلية لا يحتاج المرء إلى كثير ذكاء لكي يدركه، ولعل الدليل الأوضح على ذلك التخبط هو تعدد المشاريع السياسية التي يعرضها أو يتبناها الطرفان بين فينة وأخرى. على الجانب الاسرائيلي لم تتوقف لعبة المشاريع والطروحات السياسية خلال الشهور الأخيرة، أكان من اليمين أم اليسار، أم من مسؤوليين سابقين في هذا الاتجاه أو ذاك، فضلاً عن عسكريين حاليين أو متقاعديين. وثيقة جنيف كانت من طرح اليسار، وقبلها وثيقة (يعلون – نسيبة) القريبة منها، أما في اليمين فقد ازدحمت الساحة بالمشاريع، من مشروع "ايهود أولمرت" للانسحاب أحادي الجانب، إلى مشروع شارون تحت ذات العنوان، إلى مشروع عدد من عناصر الليكود القائم على "الترانسفير"، وصولاً إلى طرح عدد من الكتاب والسياسيين القائم على الدولة الفلسطينية في الأردن، بالاتفاق مع الدولة الأردنية التي يشكل الفلسطينيون حسب دعوى "موشيه ارنس" وزير الدفاع الأسبق 70% من سكانها. خلال ذات الشهور كان جدار الفصل يحظى بتأييد واسع في أوساط النخبة السياسية، كما في أوساط الجمهور الإسرائيلي للخلاص من التهديد الأمني الفلسطيني، مع شيء من الجدل حول مسارات الجدار، والجزء الذي سيلتهمه، وبتعبير أدق، سيبقيه للفلسطينيين من الضفة الغربية، على اعتبار أن مساره القائم سيلتهم 58% منها. في الجانب الفلسطيني كان ثمة تخبط مشابه، فوثيقة جنيف كانت مبادرة من عدد من الأشخاص، فيما يستحيل الاقتناع بأن ياسر عرفات لم يمنحها الضوء الأخضر، وإلى جانب ذلك كان ثمة اتصالات سرية وعلنية للمضي في خريطة الطريق، ومعها وإلى جانبها التوصل إلى هدنة جديدة كتلك التي أعلنتها الفصائل في شهر حزيران/يوليو الماضي. وفيما انحاز عدد كبير من قادة فتح والسلطة إلى خيار الهدنة ووقف المقاومة، كان آخرون يتشددون في الموقف مثل بعض الأجنحة داخل حركة (فتح) ومنها كتائب شهداء الأقصى، سيما والاغتيالات لم تتوقف في صفوفها، كما هو الحال في صفوف قوى المقاومة الأخرى. من جانب آخر، وعلى ايقاع أحاديث مسؤولين كثر في الساحة الاسرائيلية خلال ما يعرف بمؤتمر "هرتسيليا" حول القنبلة الديمغرافية، حاول رئيس الوزراء الفلسطيني اجتراح مناورة سياسية كان أكاديميون وناشطون فلسطينيون مثل ادوارد سعيد وعزمي بشارة قد طرحوها سابقاً وتقوم على دولة بقوميتين، وهو ما يفرض عملياً حل السلطة وتوريط الاحتلال في دولة فيها قوميتان يهودية وفلسطينية، على اعتبار أن الفلسطينيين سيكونون أغلبية بعد بضع سنوات. بعض الناس صفقوا للمبادرة غير مدركين أن أحداً لا يملك القدرة على فرضها على الإسرائيليين، كما أن غياب التهديد الأمني –في حال تبنيها- سيدفع الثمانية ملايين يهودي في العالم إلى التسجيل كمواطنين إسرائيليين حتى لو لم يعودوا عملياً، ما يجعل القنبلة الديمغرافية مجرد وهم. والحال أن العاجز عن فرض مسار محدود مثل الدولة على 22% من فلسطين لن يمكنه فرض مسار يفكك الدولة العبرية ويجعلها دولة فلسطينية خلال بضع سنوات!! لا يعرف حتى الآن ما إذا كان عرفات قد اتفق مع قريع على اطلاق مبادرته أو مناورته أم أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، لكن الرجل لم يلبث أن تراجع مؤكداً على أن الحل المطلوب فلسطينياً هو دولتان، وذلك بعد أن سجلت اعتراضات أمريكية واسرائيلية. ثم جاء بعد ذلك التلويح بإعلان دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس من طرف واحد، الأمر الذي يتجاهل أن دولة كهذه قد أعلنت سابقاً أكثر من مرة دون جدوى. بالمقابل كان آخرون في الساحة قد دعوا إلى حل السلطة الفلسطينية، وتوريط الاحتلال في وضع جديد مختلف يقوم على سحب الامتيازات القائمة للاحتلال من حيث غياب الكلفة الاقتصادية والسياسية إلى جانب معادلة التفوق الأمني، والخلاصة هي توريط الاحتلال في العودة إلى صيغة ما قبل أوسلو، حيث الاحتلال الذي يراه العالم كذلك والذي يتحمل المسؤولية عن حياة السكان، ومعها خسائر الوجود العسكري باستمرار المقاومة دون تفوق أمني، وهو الخيار الذي أسماه غير واحد من الكتاب الاسرائيليين كابوساً وأي كابوس؟ في ظل هذه المعادلة الغريبة، يمكن القول إن الاحتلال في ورطة حقيقية نظراً لعدم قدرته على فرض الاستسلام على الفلسطينيين، ومن ثم نمط الحل السياسي الذي يحقق مصلحته وفق البرنامج الشاروني، وحتى اليساري أيضاً، في ذات الوقت الذي يعجز فيه عن وقف المقاومة والنزيف الأمني، وما يتبعه من نزيف اجتماعي واقتصادي. بالمقابل لا تبدو السلطة في مواجهة ذلك سوى جزء من النظام العربي الرسمي الذي يفضل المراوحة، وإن استمرت عقوداً أو سنوات، على اجتراح مغامرة سياسية قد تنطوي على قدر من المخاطر. والحال أن فكرة حل السلطة وإطلاق مقاومة شاملة ضد الاحتلال لا تبدو مغامرة صعبة كما يقول هذا المنطق، لكنها تحتاج إلى العودة إلى منطق الثورة وليس السلطة. في ظل هذه المعادلة وتبعاً لعدم وجود حسم في المسألة العراقية، وبالتالي لطبيعة التعاطي الأمريكي مع المنطقة، يبدو أن المراوحة ستكون سمة المرحلة المقبلة، حتى لو تخللتها بعض التحركات السياسية الساعية إلى العودة إلى الخيار السياسي على نمط أوسلو ومراحله المتعددة، كما هو حال خريطة الطريق. ياسر الزعاترة – كاتب فلسطيني