في ذات اليوم الذي نشر فيه خطاب شارون فيما يعرف بمؤتمر هرتسيليا والذي طرح فيه فكرة الانسحاب احادي الجانب، نشرت صحيفة معاريف الإسرائلية مقالين لشخصيتن متناقضتين من حيث الموقف السياسي، الأول هو يوسي بيلين، مهندس أوسلو، وصانع ألعاب السلام الإسرائيلية وآخرها وثيقة جنيف، أما الثاني فهو "بنتسي ليبرمان" رئيس ما يعرف بمجلس "يشع" للمستوطنين. المفارقة هي اتفاق الرجلين على دلالة واحدة لخطاب شارون. فقد ذهب بيلين إلى أن شارون قد "منح الإرهاب جائزة ثالثة من خلال خطاب هرتسيليا"، ولا حاجة هنا للحديث عن الجائزتين الأخريين. أما الثاني فكرر الموقف معتبراً أن شارون قد منح جائزة للإرهاب من خلال ما أسماه نظرية "الفرار احادي الجانب"، حيث قام بنقل تصريح مهم لشارون أدلى به قبل عشرة أشهر يقول فيه "كل من يصرح قبل دخوله المفاوضات بتنازلات معينة يظهر جهله المطبق في إدارتها. الفصل احادي الجانب في ظل تواصل النيران يعني أننا تنازلنا دون تحقيق أي شيء". المفارقة الأهم في خطاب شارون هي أننا بإزاء زعيم دولة محتلة يهدد الشعب المحتل بتركه وشأنه ونصب جدار دونه، ما يعني أن الاحتلال قد غدا مكلفاً إلى حد لا يطاق. وهنا يجدر التذكير بالأصوات التي قال شارون إنه سيحققها من خلال مساره الجديد، والتي كان على رأسها "التقليص قدر الإمكان للإرهاب ومنح مواطني إسرائيل أقصى قدر من الأمن"، ثم "تحسين مستوى المعيشة"، والمساعدة في "تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي"، إضافة إلى التخفيف عن "الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في أداء المهمات الصعبة التي تقف أمامها". للتذكير، فإن خطة الإنسحاب احادي الجانب التي هدد شارون بتطبيقها إذا لم ينفذ الفلسطينيون "خريطة الطريق"، تشمل تفكيك عدد من المستوطنات العشوائية والانسحاب من 42% من الضفة الغربية إلى جانب معظم قطاع غزة. وللتذكير أيضاً فإن المساحة المذكورة هي ذاتها التي عرضها شارون منذ الانتخابات قبل ثلاث سنوات تحت مسمى الحل الانتقالي بعيد المدى، أي دولة مؤقتة ضمن الحدود المذكورة، وهو ما يعني أن الدولة المؤقتة هي ذاتها الحالية، والفارق أنه عرضها في السابق من خلال مفاوضات طويلة، وها هو يعرضها الآن من خلال خطوة أحادية الجانب. كل ذلك يؤكد أننا بإزاء تنازل حقيقي من شارون أمام ما يسميه "الإرهاب" خلافاً لوعوده السابقة. وهو تنازل تلخصه المسافة بين دولة تتحقق بالتفاوض والشروط الطويلة العريضة، وأخرى بذات المواصفات تتحقق سريعاً بانسحاب من طرف واحد، كما هو طرح شارون الجديد. لم يحدث ذلك من فراغ، فخلف هذا الانجاز صمود رائع للشعب الفلسطيني وقواه المقاومة، وخلفه أيضاً فشل لأحلام ما بعد احتلال العراق بسبب المقاومة، كما أن خلفه ورطة أمريكية واضحة في العراق لا تحتمل تصعيداً في الساحة الفلسطينية. كل ذلك يؤكد أن المقاومة لم تخسر الحرب، بل تمكنت من صناعة انتصار لم تتح له الظروف حتى ينضج، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو أية قناعات دفعت شارون إلى تبني الطرح الجديد، إضافة إلى ضغط الواقع الذي يعيش؟ ترى، لو كان شارون يدرك أنه أمام خصم قادر على الرد، بحيث يعلن حل السلطة وتوريط الاحتلال في عكس الأهداف التي سعى إلى تحقيقها من خلال فك الارتباط احادي الجانب، هل كان سيعلن خطته الجديدة؟ لقد أكدت اللعبة الجديدة أن الوضع القائم كان مناسباً للاحتلال، حيث السلطة الهشة التي تتحمل مسؤوليات المدنيين الفلسطينيين، وحيث بإمكان الاحتلال أن يدخل ويخرج في أي وقت يشاء لمطاردة المجاهدين وهدم البيوت. لقد منح وجود السلطة الاحتلال ميزات مهمة، فإضافة إلى ما سبق هناك وجه الاحتلال أمام العالم، فهنا ثمة دولة تقاتل دفاعاً عن شعبها أمام الإرهاب كما ذهب الأوروبيون وقبلهم الإدارة الأمريكية، وليس شعب محتل يقاتل لتحرير أرضه. لقد آن الأوان لكسر هذه المعادلة البائسة، والرد على تهديد شارون بإعلان حل السلطة أو الدفع في ذلك الاتجاه بتصعيد المقاومة ومواجهة الاجتياحات وعمليات التوغل، بحيث يعود الاحتلال إلى وجهه القذر، ويتحمل مسؤوليته عن حياة المدنيين، فيما يتحمل الكلفة الأمنية لوجود عسكرييه وإدارته المدنية في مواجهة المقاومة. لو علم شارون أن السلطة ستفعل ذلك لما هدد بطرح خطته السخيفة، لكنه يدرك مع الأسف أن ذلك لن يحدث وأن الوضع القائم يبدو مقبولاً للبعض على رغم هزاله. مع ذلك سيبقى الاحتلال في ورطته، وسيتأكد الجميع أن أحداً لن يكون قادراً على فرض الاستسلام والحلول المشوهة على الفلسطينيين. والحال أنه لو كانت الإرادة السياسية الفلسطينية، والعربية من ورائها، في وضع أفضل، وقرأت الظرف الاقليمي والدولي بعين الواقعية الحقيقية لما كان منها سوى قلب الطاولة في وجه شارون وبوش وتصعيد المقاومة بكل الوسائل وصولاً إلى اسقاطه ومعه خياراته السياسية. ياسر الزعاترة