كانت ليلة الخميس الماضي مذهلة بالنسبة الى متابعي الانتخابات العامة البريطانية. اذ جاءت النتائج منافية لكل التوقعات السياسية والأعلامية ومراكز استطلاع الرأي العام، العريقة، التي يصفها البعض بأنها مثل جلجامش «الذي رأى كل شيء» بمعنى انها تعرف كل شيء عن المصوتين، من أصولهم الأثنية الى نوع الزبدة التي يحبون تناولها، ناهيك عن مواقفهم السياسية وتفضيلهم انتخاب حزب او مرشح دون غيره. وأنا أراقب عملية التصويت، ومن ثم البدء بفرز الاصوات، لحظة انتهاء التصويت، عبر البث التلفزيوني المباشر، وما حمله اعلان النتيجة تلو النتيجة في ارجاء المملكة المتحدة من مفاجآت غير متوقعة، من خسائر ونجاحات، وصعود مرشحين وهبوط آخرين، عشت حالة مقارنة مع حال الانتخابات العامة العراقية التي شهدناها منذ الاحتلال عام 2003. ما استدعى حالة المقارنة بالدرجة الاولى هو توصيفها في كلا البلدين، بانها انتخابات تتم في ظل نظام ديمقراطي. ولن أدخل هنا في مقارنة هيكلية ومسار وقوانين نظام الانتخابات البريطاني مع العراقي، اذ سيبدو الاجحاف واضحا، فالأول نظام عريق في بلد بدولة لها مؤسساتها التي يتبدل الافراد فيها ولا تتبدل، بينما الثاني حديث الولادة في بلد بلا دولة ولا مؤسسات بل أفراد تم تفصيل المؤسسات على قياسهم، بالاضافة الى المفارقة الأساسية في التوصيف فبريطانيا بلد أمبريالي أحتل العراق مرتين خلال القرن العشرين وساهم في تحطيمه على كل المستويات . ولن أتطرق الى سيرورة الانتخابات أو أنواع الضغوط والأغراءات التي يتعرض لها المواطن العراقي خاصة، بل ستكون نقطة المقارنة عن لحظة اعلان نتائج الانتخابات، وردود افعال المرشحين الخاسرين منهم والفائزين، وبالتالي ردود افعال الاحزاب التي ينتمون اليها، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة وعلاقتها بالمواطن. في الانتخابات البريطانية، استقبل كل المرشحين اعلان نتائج فوزهم أو خسارتهم بهدوء واحترام لبقية المرشحين في حال فوزهم وبروح معنوية عالية في حال خسارتهم. كان من بين المرشحين المتنافسين على 650 مقعدا، رؤساء احزاب ووزراء حكومة ووزراء ظل ونواب برلمان، على مدى عقود، جنبا الى جنب مع مرشحين شباب جدد، اصغرهم كانت طالبة جامعية أسكتلندية في العشرين من عمرها. اللافت للنظر، في مواقف الخاسرين، سواء كانوا من حزب العمال الذي كان من المتوقع ان يقف على قدم المساواة مع حزب المحافظين الحاكم في المنافسة على تشكيل الحكومة، أو من الحزب الديمقراطي الليبرالي، ويشمل ذلك بعض قادة الحزبين، هو تضمن خطاب التنازل الذي لايزيد عن دقائق معدودة، أولا: تهنئة الفائز/الفائزة على الانتخاب، وثانيا: التطرق الى فشله والدعوة الى البحث في اسباب الفشل على المستويين الشخصي والحزبي. مما يعني، في لحظات الفوز المشحونة بالعواطف وقمة الجهد المبذول على مدى شهور، ان لم يكن سنوات، للحصول على اصوات الناس، أنه اقرار مطلق باحترام اختيار المصوتين وأعتراف بأن الخسارة مردها ليس الشعب بل النخبة السياسية وابتعادها عن تمثيل مايريده الشعب. هذا الأقرار باحترام حرية الأختيار هو جوهر الانتخابات الديمقراطية، وهو الذي دفع ثلاثة من رؤساء الاحزاب البريطانية الى الأستقالة من رئاسة احزابهم، وهم : أد ميليباند، رئيس حزب العمال (على الرغم من فوزه ب232 مقعدا)، و نك كلغ، رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي فقد 38 مقعدا، ونايجل فاراج، رئيس حزب استقلال المملكة المتحدة، بعد أن فشل في الاحتفاظ بمقعده في دائرته الانتخابية. هكذا اعترف الثلاثة بمسؤوليتهم، وكان رئيس حزب العمال الذي طالما حكم البلاد، هو الأول، قائلا إنه يتحمل « المسؤولية كاملة عن هزيمة حزبه في الانتخابات». بالمقابل، لم يحدث أن لستقال مسؤول حكومي بالعراق . كل مسؤول ملتصق بكرسيه حتى آخر عراقي، استنساخا لما قاله رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بأنه سيقاتل، دفاعا عن الامبراطورية، حتى آخر هندي. ومن الصعب ايجاد شبيه لمجريات الانتخابات « الديمقراطية» في العراق الجديد. فالوجوه هي ذاتها التي دخلت مع المحتل أو تعاونت معه، والانتخابات بمجملها عبارة عن لعبة كراسي ولسان حال كل سياسي يقول لن أتخلى عن هذا المقعد ما لم توفروا لي مقعدا آخر. نتائج الانتخابات، لا تعلن الا بعد مضي اشهر، وتشكيل الحكومة يمر بمخاض من الصراعات والتفجيرات الدموية والتخويف الميليشياوي، بالاضافة الى شكاوى التزوير التي وصلت، اثناء الانتخابات الاخيرة، الى ألفين شكوى بعد اعلان النتائج الأولية. ولا تعلن النتائج النهائية حتى تفرض التحالفات طائفيتها السياسية حسب درجة فسادها وسيطرتها على الوارد النفطي. ولاتنسوا مكافأة من تسببوا، اثناء حكمهم، بحملات الابادة وسرقة المليارات، بمناصب تتيح لهم مواصلة ذات المنوال. ولنا في اعادة تأهيل نوري المالكي وحزبه افضل مثال. أما مقارنة موقف السياسي البريطاني بنظيره العراقي لحظة خسارته الانتخابات، فيستدعي جلسات عزاء للطم االوجوه والصدور معا. أذ يسارع الخاسر لأتهام الفائز بالتزوير ثم نراه بعد فترة وجيزة محتلا لمنصة النواب، خارج قاعة البرلمان، داخل المنطقة الخضراء، وهو يكيل الاتهامات لمنافسه، تليها لقاءات على عشاء دسم مع اعضاء حزبه او تحالفه للاتفاق على استراتيجية تشويه ناجحة لخصومه. ولا تكمل الصورة بدون ان يرابط الخاسر في استديوهات الفضائيات لاجراء مقابلات لاحصر لها، يهدد ويتوعد فيها بكشف «ملفات» تفضح فساد منافسه ومشاركته ب «عمليات ارهابية» تستهدف تقويض «الديمقراطية» بالعراق. يستمر مسلسل التهديد والتشويه، على مدى شهور، حتى يضطر الطرف الآخر، على اجراء اتفاق يتيح للطرفين أو الاطراف (الشيعي والسني والكردي حسب التوصيف الرسمي) تقاسم الكعكة، وعلى الاغلب تحت ضغوط أمريكية أو ايرانية أو الأثنين معا. ويعتبر فوز القائمة العراقية، برئاسة اياد علاوي، بانتخابات عام 2010، وخسارة ائتلاف دولة القانون، التابع لرئيس الحكومة، نوري المالكي، نموذجا لايضاهى في رفض نتائج الانتخابات اذا لم تكن لصالح الطرف الاقوى. فبدلا من ان يهنأ المالكي علاوي وينسحب من منصبه، أدعى ان النتيجة مزورة «وأن جماعة مجاهدي خلق، قد استخدموا الأقمار الاصطناعية للتلاعب بالحواسيب المستخدمة لعد أصوات الناخبين»، حسب أما سكاي التي توجهت مع الجنرال الامريكي أوديرنو للقاء المالكي وتهنئته على اجراء الانتخابات. يبدو مما تقدم أن مفهوم وتطبيق الديمقراطية يختلف من بلد الى آخر . ففي بريطانيا، تعتبر الانتخابات الحرة النزيهة وجه من اوجه الديمقراطية بينما تقدم الانتخابات، بالعراق، الى الشعب والعالم باعتبارها هي الديمقراطية مهما كانت درجة تزويرها والتلاعب بها. فمن المستحيل، مثلا، قبول التنفيذ العراقي للانتخابات ببريطانيا وأمريكا، الا ان الحكومتين لاتجدان غضاضة في تهنئة الشعب العراقي المسكين على مهزلة الانتخابات ونتائجها المفروضة عليه مع علمهما بأن ما يجري مجرد ملهاة دموية. الأدهى من ذلك، ان معظم ساسة العراق الحاليين، الملتصقين بمقاعد الحكومة والبرلمان بالغراء، هم ممن قضوا عقودا في الدول الاوروبية وأمريكا وبريطانيا، وطالما غردوا المديح لديمقراطية بلدان اللجوء وتشدقوا برغبتهم بتطبيق ذات الديمقراطية بمجرد حصولهم على المساعدة لتغيير النظام غير الديمقراطي وصعودهم بديلا عنه. فما الذي حدث؟ كشفوا الأقنعة عن سياسة تهدف الى تقسيم البلد وإهانة شعبه عبر الاستماتة بروح الانتقام والفساد والصراعات الدموية التي تُبعد الناس، يوما بعد يوم، عن المحافظة على التوازن العقلي والجسدي. وبدلا من مراجعة مواقفهم (كما رأينا في انتخابات بريطانيا) وبحث أسباب التدهور نحو القاع الذي قادوا الناس اليه، وتحمل المسؤولية، نراهم، جميعا، يقفون على المنصات، متوهمين بانهم أعلى من الشعب، ليلوموا الشعب على عدم فهمه الديمقراطية التي يبيعونها اليه. متعامين عن حقيقة ان الديمقراطية في غياب الدولة الوطنية وحقوق المواطنة، عبارة عن تعليب فاسد لها، وهذا سبب رفض الشعب لهم ولها.