قبل محاولة السفر من القدس في اتجاه الخليل (حوالي 40 كلمترا) لم يكن في إمكاني قياس مدى الصعوبات التي يجدها الفلسطينيون في تحركاتهم داخل الأراضي المحتلة. فهناك في الغالب الكثير ممن يبقى على هامش ما تقدمه لنا يوميا وسائل الإعلام، وكذلك هامش كبير بين ما ندركه عبر استقبالنا هذا للأخبار وبين حقائق الواقع على الأرض. قررت أنا وزميلي ومعنا أحد الفلسطينيين من بيت لحم السفر إلى قرية في جنوب الخليل، بقصد ملامسة الصعوبات اليومية للساكنة القروية حول الخليل. والخليل هي في الواقع مكان أهم تكتل بشري في الضفة الغربية (000 500نسمة) والأكثر فقرا وعوزا (بأدنى مستوى عيش). في صباح يوم انطلاقنا قصدنا أولا بيت لحم لنصحب صديقنا نوح سلامة، وهو شخص استثنائي بحركيته ونزاهته. كان السيد سلامة قد أمضى سبعة عشر سنة في السجون الإسرائيلية، وعند خروجه أسس جمعية للمصالحة والحوار بين الطوائف. إنه، بدون مواربة يفضل انتقاد ذويه عوض إلقاء كل التبعات والمساوئ على الحكومة الإسرائيلية التي لا تحظى عنده بأي تعاطف لأنها مسؤولة عن محنته وعن الحصار المضروب على عائلته ومواطنيه. صديقنا الفلسطيني كان قد اتصل ببعض معارفه في الخليل حتى يهيؤوا لنا زيارة لقرية في جنوب الخليل، على القرب من الحدود مع "دولة إسرائيل". استيقظنا مع بزوغ الفجر لأننا توقعنا أن اليوم سيكون طويلا جدا، ولكنني لم أكن أبدا أتصور أننا سوف نقطع 04 كلمترا في خمس ساعات نغير خلالها وسائل نقلنا خمس مرات. استقللت في البداية سيارة أجرة من الفندق الذي أقطن فيه باتجاه نقطة التفتيش بين القدس وبيت لحم، المرور أمام رجال الشرطة يتم على الأقدام، لأن سيارات الأجرة المرقمة في "إسرائيل" لا يمكنها المخاطرة بالذهاب إلى المدن الفلسطينية، ولقد فوجئت في ذلك اليوم بقلة الحركة وغياب سيارات الأجرة الفلسطينية على الجانب الآخر من الحاجز. ما كدت أشرع في النداء على صديقي الفلسطيني حتى رأيته قادما نحوي. تركنا سيارته قرب مكتبه، وأخذنا سيارة أجرة نحو نقطة التفتيش الموجودة في جنوبالمدينة في اتجاه الخليل. كانت مفاجأتنا كبيرة ونحن نكتشف أن الطريق كانت مقطوعة دون سابق إنذار. الأجانب يمكنهم المرور أما الفلسطينيون فلا. لم نكن على استعداد إطلاقا أن نستمر في طريقنا بدون صديقنا، رغم أنه اقترح علينا أن نذهب لمقابلة أصدقائه الذين سوف يقومون باللازم. خلال دقائق الانتظار التي قضيتها في التفكير في إمكانية مواصلة يومنا، حصل لي أن شاهدت مشهدا ل"أم شجاعة". كانت أما شابة تتقدم رفقة أطفالها الثلاثة (ما بين 4 و8 سنوات) تقريبا، وسألت عما يجري، فأخبروها بأن الجيش الإسرائيلي قد أغلق الطريق، وأشاروا لها إلى شاب يقف تحت الشمس منذ أزيد من ساعة، وأنه ليس إلا في بداية عقوبته، وذلك لأنه تجرأ على التقدم للتفاوض مع الجنود. أخذت الأم الشابة أصغر أطفالها بين ذراعيها وتقدمت بكل شجاعة نحو الجنود الشبان المسلحين. كان الأطفال الثلاثة يرتدون لباس المدرسة، وكانت الأم تريد فقط عبور الطريق لتأخذ أطفالها إلى المدرسة الموجودة على مرأى من الساحة التي كنا محجوزين عندها. قال لي زميلي الذي فاجأه المنظر بأن هذه المرأة شجاعة ولكنها ربما غير واعية بما تفعل. لم أشأ أن أجيب؛ لأنه من الصعب علينا نحن الذين نعيش داخل أجواء من السلم والأمان أن نتصور ما تعانيه النساء والرجال الفلسطينيون الخاضعون لأشكال الإهانة اليومية وما يجتازونه من أحاسيس. ثم إن هذه الأم الشجاعة لا تطلب إلا أبسط، أبسط حقوقها؛ حق أطفالها في التعلم. اقترح علينا سائق سيارة أجرة أن يحملنا إلى الخليل عبر مسلك مواز، كنا أمام أحد خيارين إما الرجوع من حيث أتينا أو محاولة هذه المغامرة. كان سلامة يعرف أنه لا وجود حقيقة لمسلك مواز، ولكن سوف يكون علينا القيام بعمل جبار نزاوج فيه بين ركوب سيارة الأجرة والسير على الأقدام، قبلنا المغامرة. بعد ثلاثة أرباع الساعة وصلنا إلى قمة أحد التلال. عند وصولنا لاحظت وجود عدد كبير من الأشخاص يبللهم العرق وهم ينزلون التل في الاتجاه المعاكس. في نهاية المطاف، الكل ينزل. ونحن نازلون من الجانب الآخر لنصل إلى السفح لاقينا عدة أشخاص يصعدون التل على أقدامهم، وهو ما يفسر حالتهم وشحوبهم عندما يصلون إلى القمة. لكون الطريق تسدها كتل كبيرة من الأحجار الضخمة الموضوعة هناك، فإن السيارات مضطرة إلى إنهاء رحلاتها عند سفح التل. أخذنا سيارة أجرة أخرى من نوع الاستعمال المشترك (كبيرة) اضطرت إلى اختراق مرآب إحدى الدور والانعراج بين حقول الزيتون للوصول إلى الضفة الأخرى، وبعد بضع كلمترات من الطريق اضطرت بدورها إلى التوقف لأن الطريق كانت تسدها كتل أخرى من الصخور. كان علينا هنالك مواصلة الطريق سيرا على الأقدام ثم أخذ آخر سيارة أجرة حتى مسكن أصدقاء سلامة في الخليل. لقد غادرنا القدس على الساعة السابعة صباحا والساعة الآن الثانية عشرة زوالا، خمس ساعات وخمس سيارات أجرة لقطع أربعين كلمترا. كما قرأتم في ما حكيته لكم لحد الآن فإن الفلسطينيين يستطيعون الوصول إلى المدن الأخرى رغم حظر التجول، والجيش الإسرائيلي يعرف ذلك. ويمكن إذن التساؤل عن لماذا كل هذه الإجراءات. إن كل هذه التنقلات الجد مرهقة جسديا والجد مكلفة ماديا لدرجة يصعب تحملها ما هي إلا محنة إضافية تسلط على شعب تحت الاحتلال. عند وصولنا إلى الخليل استقبلنا من طرف فلسطينيين أخذونا مباشرة في اتجاه قرية الدورة. كانت الطريق في حالة سيئة جدا وقد عبرنا كلمترات قليلة في أزيد من ساعة. وعند وصولنا إلى القرية التقينا ببعض السكان وبعض ممثليهم المحليين. وكان محور نقاشنا الأول يتعلق بهذا المنطق الذي يقطع الطريق الرئيسية دون منع المرور حقيقة، بما أننا قد وصلنا مع ذلك إلى الخليل. إنها سياسة إنهاك واستنزاف، يجعل الفلسطيني لا يفكر في شيء إلا في كيفية الوصول إلى عمله حتى لا يفقده كما فقده مائة ألف فلسطيني يعملون في إسرائيل، وكما فقد عملهم 000 006 ألف آخرون يعملون في غزة والضفة الغربية منذ بداية الانتفاضة الثانية (حسب تقرير للسيدة بيرتيني مبعوثة الأممالمتحدة). أفهمني محاوري الفلسطينيون أن الإدارة الإسرائيلية تعتقد أنه بإشغال الناس بالمحن اليومية: الذهاب إلى العمل أو البحث عن طريقة لإيجاد المال من أجل إطعام أسرته؛ سيكون من نتائجه إنهاك العمل السياسي، بل إنه عامل مشجع على ما تسميه باحتشام: الترحيل. الترحيل هو نوع من الإبعاد والنفي المقنع إذ أنه يخنق الناس اقتصاديا ونفسيا، فإنهم يختارون من ذات أنفسهم أن يحملوا حقائبهم ويغادروا أراضيهم. ولقد أخليت قرية بكاملها من سكانها الفلسطينيين بعد نزوح "اختياري" تجاه الأردن. ولقد التقيت بمحاورين بدويين يتمتعون بوعي سياسي جد عال. أحدهم وهو رجل في الستين من العمر كان اجتهد خلال عدة سنوات من أجل إنشاء تعاونيات فلاحية، قال لي عند خروجي من بيته بأن >الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلا إلى "الأمان" وإذا توفر ذلك فإن الفلسطينيين قادرون على الوقوف على أقدامهم من جديد دون مساعدة< والأمان الذي يقصده كلمة لا تفي ترجمتها إلا "sécurité" "الأمن" بكل الأبعاد التي تضمنها لها اللغة العربية. هذه الجملة المفعمة بالنبل وصلت مباشرة إلى أعماق قلبي. لقد وجدت عند هذا الرجل كبرياء واعتزازا بالنفس يعودان بنا إلى العهد الذهبي للعرب. قبل أن يفسد الاستعمار طائفة منا ويكون لذلك الإفساد النتائج التي نعرفها جميعا. إننا قاعدون الآن وننتظر من يمن علينا بالعطاء، ومن يفكر من أجلنا ومن أجل مستقبلنا. إذا كانت هذه هي الحداثة فإنها إذن ذات ضرر كبير علينا. بينما خصومنا وأصدقاؤنا الموهومون لا يحترمون حقيقة إلا البعض القليل منا من الذين ظلوا أوفياء لذواتهم كما هي. كان علينا أن نقضي نفس المدة الزمنية للرجوع إلى القدس. كنت منهكا ولكن سعيدا لأنني اقتسمت يومي هذا مع فلسطينيين بسطاء يكافحون مع المعيش اليومي. كنت خلال هذا اليوم بعيدا عن الصالونات المكيفة الهواء بخطبها الفارغة. لقد كنت سعيدا لأنني التقيت بأناس لا يتركون استعمارا طال كثيرا يهزمهم، وعلى الرغم من ظروفهم فإنهم لا يمضون الوقت في النواح والعويل وفي السب والشتم، ولكنهم يقاومون بكل الوسائل، في انتظار صحوة ضمير مفترضة من طرف "الإسرائيليين" وفي انتظار أيام خير من أيامهم هذه. الدكتور زهير لهنا