هل ينزلق المغرب في دوامة التطرف والارهاب؟ الأخبار القادمة من هناك تشير إلى شيء من هذا القبيل، إذ بعد إعلان القاء القبض على عشرة من المتهمين بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، (3 سعوديين و7 مغاربة)، تناقلت وسائل الإعلام أنباء عن هجوم على عرس في مكناس، وصدامات بين عناصر وصفت بأنها «أصولية» وبين رجال الأمن الذين أعلنت في صفوفهم حالة الاستنفار تحسبا لمختلف الاحتمالات، وفي أعقاب تلك الصدامات وبسببها ألقي القبض على مئات الأشخاص. وترددت في هذا السياق أسماء جماعات من قبل "التكفير والهجرة" و"السلفية الجهادية" وإزاء هذه التطورات فإن السؤال الذي بدأنا به الكلام يطرح نفسه بقوة، خصوصا أن ما يجري يستدعي إلى الأذهان خلفيات مؤرقة مخيفة بعضها لما حدث في الجزائر، والبعض الآخر لما حدث في مصر. لا أزعم أنه لي إحاطة كافية بما حدث في المغرب، وما أعرفه عن الموضوع لا يتجاوز معلومات عن الحالة الإسلامية هناك حصلتها من زيارات سابقة، آخرها قبل 18 شهرا، ومعلومات أخرى تداولتها وسائل الإعلام خلال الأسابيع الأخيرة. لكني أزعم أن لي خبرة جيدة نسبيا بما حدث في مصر بالدرجة الأولى، وبالجزائر بدرجة أقل. ذلك أني أعيش وأتابع التجربة المصرية مع الحالة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عقود (منذ تعرضت في عام 1954م للاعتقال لمدة سنتين)، ثم إنني اقتربت من التجربة الجزائرية، وعكفت على دراستها، خصوصا بعد الانفجار الذي حدث هناك في بداية التسعينات. تحرير المشكلة أولا أحد أهم دروس تلك الخبرة أن المرء ينبغي أن يكون شديد الحذر في التعويل على ما تبثه وسائل الإعلام من أخبار تتعلق بالحالة الإسلامية على وجه التحديد، لأن أكثر وسائل الإعلام في بلادنا إما خاضعة لسلطات الدولة أو تقف على أرضيتها، ومن ثم فإن ما تبثه من أخبار وتقارير لا يكون تعبيرا عن الحقيقة بقدر ما يصبح نوعا من استخدام الإعلام لتصفية الحسابات، سواء كانت حسابات السلطة مع الجماعات الإسلامية المختلفة معها، التي هي في بعض أوجهها حسابات للعلمانيين مع الإسلاميين. ولأن الأخبار في هذا الصدد عادة ما تكون خاضعة للتسييس (لاحظ أن مصدرها الأساسي عادة ما يكون أجهزة الأمن)، فقد تكون مختلفة من الأساس وقد يكون مبالغا فيها، الأمر الذي لا يمكن المراقب من أن يتأكد من صحتها، وإذ كانت صحيحة، فإنه يعجز عن تحديد حجمها الحقيقي، وهذه النقطة الأخيرة من الأهمية بمكان، لأن حجم الحدث هو الذي يحدد ما إذا كان يمثل ظاهرة اجتماعية متفشية تستوجب تعبئة واستفنارا، أم أنه مجرد واقعة محدودة النطاق والأثر ، ومن ثم فإنها تقدر بقدرها، ويتم التعامل معها على ذلك الأساس. أذكر أنه في بدايات الصراع بين الجماعات الإسلامية وبين السلطة في مصر، خلال السبعينات سمعنا عن جماعة التكفير والهجرة" وكان لهذا التنظيم قضية بهذا الإسم، ثم تبين لاحقا أن الإسم من صنع أجهزة الأمن، وأن الإسم الحقيقي كان «جماعة المسلمين» غير أن الإسم الأول هو الذي شاع وانتشر، وإن تعددت المسميات بعد ذلك، فإن قارئ الصحف المصرية وقتذاك يكاد يخيل إليه أن ثمة جيوشا للجماعات المتطرفة، تتربص بالناس في كل حي وزقاق، لكي تطلق الرصاص على السياسيين والمثقفين ورجال الأمن. وكانت تلك كلها مبالغات، من ذلك النوع الذي وظف فيه الإعلام لاغتيال الخصوم وتصفيتهم أدبيا، وتسويغ الاجراءات القمعية التي كانت تتخذ بحقهم. بعد أحداث 11 سبتمبر أصبحت دائرة الاتهام أوسع، وفي حالات كثيرة اختفت الحدود والفواصل بين المعتدلين والمتطرفين، وأصبح الانتماء إلى الإسلام والالتزام بأوامره ونواهيه من قرائن التطرف عند البعض (في عدد 8/5 في مجلة "نيوزويك" تقرير عن نشاط الأحزاب ذات الميول الإسلامية في تركيا ذكر المسلمين الأكثر تطرفا هم الذين يرون في الكحول مشكلة!)، وبعد تلك الأحداث جرى ابتداع مصطلح «الخلايا النائمة»، الذي يبعث على الشك في كل واحد، حتى وإن بدا المرء معتدلا، ولم يصدر عنه أي تصرف يوحي بالقلق، فذلك لا يعفيه من الاتهام، باعتبار أن ذلك بالضبط هو المسلك الذي يتعين أن يلتزم به عضو الخلية النائمة! من الدروس التي تعلمناها من تجارب السنين أنه لا يكفي في رصيد الظاهرة على فرض أنها كذلك أن نستوفي إجابة اسئلة من قبيل من وماذا وأين ومتى وكيف. وإنما من المهم للغاية أن نتوقف أمام السؤال لماذا؟ إذ بغير ذلك لن نتمكن لا من فهم الظاهرة، ولا من تقصي أسبابها واقتلاع جذورها، ومن الخطاء الجسيمة التي وقع فيها كثيرون ممن تصدوا لتحليل ودراسة تجليات الحالة الإسلامية أنهم حاولوا أن يدرسوا تلك التجليات من دون النظر إلى الظروف الاجتماعية والسياسية الاقتصادية التي أحاطت بها وأسهمت بدرجة أو بأخرى في إفرازها. ملابسات خاصة في مكناس في هذا الصدد ذكرت الصحف العربية نقلا عن "المصادر الأمنية" في العاصمة المغربية أن حالة الاستنفار أعلنت في قوات الأمن والدرك بهدف تطويق تحركات ناشطي جماعات أصولية اتهموا بارتكاب أعمال سطو وسلب وقتل في التسعينات أي خلال السنوات العشر السابقة. وخلال عمليات التمشيط التي تمت في أنحاء البلاد، خصوصا في أوساط الأفغان المغاربة، تم اعتقال مئات من المتورطين في تلك الجرائم، وكان نفر من هؤلاء (14 شخصا)اعتقلوا في ضواحي مدينة مكناس، وسط البلاد، بعدما هاجموا حفل زفاف مما أدى إلى إصابة بعض المدعويين باصابات خطيرة إثر تلقيها طعنات بالأسلحة البيضاء. ربط البعض بين هذا الهجوم وبين اغلاق السلطات مسجدا، كان يرتاده هؤلاء الأشخاص (المهاجمون) في ضواحي المدينة التي اشتهرت بتفشي البطالة فيها، وقد لجأت السلطات إلى إغلاق ذلك المسجد إثر بلاغ تلقته تعلق بسيطرة تلك المجموعة المتطرفة عليه. على صعيد آخر فقد حدث اشتباك في الدارالبيضاء بين مجموعة "أصولية" أخرى وبين قوة الأمن، وكان مسرح الاشتباك أحد الأحياء الشعبية في المدينة، واستخدمت فيه الذخيرة الحية والأسلحة البيضاء، وإثر ذلك تم اعتقال تسعة أشخاص من جماعتي "التكفير والهجرة" و"الصراط المستقيم" واودعوا سجن الدارالبيضاء على ذمة اتهامهم رسميا بالقتل وتعنيف الضحايا واستخدام السلاح الأبيض. في الوقت ذاته صدر بيان عن وزارة الداخلية المغربية أعلن أنه تم اعتقال ناشطين في تنظيم جماعة "السلفية الجهادية" تبين من التحقيق معهم اغتيالهم لعدد من المواطنين في مدن مغربية، وكان من بين المتهمين شخص قام بتصفية ابن أخيه قتلا، بعد أن اعتبره كافرا بسبب تعاطيه الخمر. وقال بيان وزارة الداخلية أن الناشطين الإسلاميين "كانوا يصفون من يفتون بقتلهم بالذبح من الوريد إلى الوريد وتمزيق الجثت بعد تشويهها، ووجهت إليهم بالإضافة إلى تهمة القتل العمد مع الإصرار والترصد تهم السرقة وتكوين عصابة إجرامية والتزوير وانتحال صفات وشخصيات»، ولم يعرف عدد المتابعين في هذا اللقاء إلا أن مصادر تؤكد أنه تجاوز الثلاثين مقعدا كما أن العشرات استنطقوا وطلبوا التحقيق. ذكرت مصادر أمنية أن ثمانية من ؛الأصوليين المتشددين» الذين ينتمون إلى جماعة "التكفير والهجرة" والمحتجزين في سجن الدارالبيضاء، اعترفوا، بحسب محاضر التحقيق بقتل ثمانية أشخاص وتنفيذ 115 اعتداء والقيام ب 116 عملية نهب وسرقة تحت التهديد بالسلاح الأبيض، خلال فترة التسعينات. استنكارات وادعاءات وردود وبينما ذكرت بعض الصحف أن الذين قاموا بالهجوم على عرس مكناس هم أعضاء في جماعة "السلفية الجهادية" وليس تنظيم التكفير والهجرة، فإن أمير الحركة السلفية محمد عبد الوهاب رفيقي، وكنيته أبو حفص، أصدر بيانا نفى تلك الصلة، وقال أن «بعض المنابر اصرت على تلقيب أهل السنة بذلك الإسم العتيد برغم براءتهم من التواطؤ مع السلطة، في إطار التحريض على أهل السنة والإغراء بهم». وأضاف أن جماعته (أهل السنة) امتداد للحركة العلمية التي عرفها المغرب منذ دخول الإسلام، وأنها تقوم بحملات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، من دون اللجوء إلى التكفير أو العنف. قال أيضا «إن الحملة على جماعته تهدف أيضا إلى تشويه علماء أهل السنة «حتى لا يحاربوا المد الفرانكوفوني، الذي استعصى عليه التأثير في عموم الناس، لأنه اصطدم بفطرتهم السليمة، التي تستجيب تلقائيا لنداء الإسلام». وفي إطار رد الفعل فإن جماعة العدل والإحسان، المحظورة، التي يرأسها الشيخ عبد السلام ياسين، وهي أكبر الجماعات الإسلامية وأقواها نفوذا بالمغرب، أدانت مبدأ استخدام العنف لتحقيق أي هدف رسالي. وصرح الناطق باسم الجماعة السيد فتح الله أرسلان أن «موقفنا واضح من نبذ العنف بكل أشكاله وندين المتورطين فيه، سواء كانوا جماعات أو أفرادا» في إشارة إلى أعمال القتل الغامضة التي نسبها المحققون إلى أصوليين إسلاميين ينتمون إلى جماعتي "التكفير والهجرة" و"الصراط المستقيم". لكن المسؤول الإسلامي أعرب عن شكه في توقيت كشف تورط أعضاء في الجماعات الإسلامية في جرائم القتل مع الإعداد للانتخابات التشريعية المقررة في 27 سبتمبر الحالي، محذرا من عواقب "تضخيم الجرائم المرتكبة والإصرار على إقحام المغرب في دوامة الارهاب، داعيا إلى التعاطي مع التطورات الأخيرة ب "عقلانية وبعيدا عن الحسابات الضيقة». صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" التي يديرها رئيس الوزراء المغربي السيد عبد الرحمن اليوسفي، توسعت في نشر وقائع الجرائم المنسوبة إلى المتهمين المنسوبين إلى الجماعات الإسلامية، ووصفتهم بأنهم "أمراء الدم" الذين لا يتورعون عن ارتكاب الجرائم الوحشية التي مارسوها منذ عام 1988، وأضافت الصحيفة أن المدير العام للأمن الوطني أعطى تعليمات مشددة لرجال الشرطة في «فاس» لمواجهة المد "الأصولي" الذي يتغذى من تكفير المجتمع برمته. صحيفة "العلم" الناطقة بلسان حزب الاستقلال المشارك في الحكومة قالت، إن الأحداث التي شهدتها بعض المدن المغربية "لا تدعو للقلق" وطالبت بعدم تهويلها أو تضخيمها في إشارة لتعاطي صحف أخرى مع هذه الأحداث، وقالت "العلم" إن ما يستفاد من المعطيات إن كل شيء تحت المراقبة. أهداف سياسية وراء الحملة صحيفة "التجديد" (الداعمة لحزب العدالة والتنمية) الممثل في البرلمان استمرت في تشكيكها في ما تورده الصحف من أنباء بشأن معتقلي الدارالبيضاء، وأطلقت على صحف مثل "الاتحاد الاشتراكي" و"الأحداث" صفة "الكذابين المحترفين" ونقلت عن توفيق مساعف محامي متهمين من ناشطي "السلفية الجهادية" أن تنظيما باسم "التكفير والهجرة" قال إن المعتقلين ارتكبوا خلال السنوات الماضية جرائم عادية بدافع الفقر والعوز، وهي جرائم يعاقب عليها القانون الجنائى. وهاجمت الصحيفة ما أسمته "تلاعب" بعض الصحف المغربية بنتائج استطلاعات الرأي التي تجري في الوقت الراهن، لاستطلاع اتجاهات المغاربة في الانتخابات القادمة، واعتبرت أن هذه الاستطلاعات "عملية سياسية" وأن هدفها استثمار أجواء حملة التعبئة الجارية لدى المغاربة للتصويت لصالح حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يقود الحكومة وليس معرفة آرائهم بشكل محايد ونزيه. تساؤلات حول دوافع التوقيت من هذه الوقائع يستخلص المرء ما يلي: إن المغرب يواجه ظروفا اقتصادية صعبة ضغطت على المجتمع بشدة، الأمر الذي كانت له انعكاسات متعددة، كان من بينها زيادة الإقبال على الهجرة إلى الخارج (تشير التقديرات إلى أن 600 ألف مغربي هاجروا من البلاد خلال ال 15 سنة الأخيرة). وكان من تلك التجليات أيضا ارتفاع نسبة البطالة التي تقدرها احزاب المعارضة ب 22.12% بينما تتحدث الأرقام الرسمية عن 16% فقط، وهي نسبة عالية في بلد تعداده في حدود 30 مليون نسمة. ومن تلك التجليات كذلك ظهور بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي هي من النتاج الطبيعي للتطرف السياسي أو الاجتماعي. إن ثمة حوادث أو جرائم ارتكبتها عناصر «تنتمي إلى بعض تلك الجماعات، خصوصا بلدة مكناس التي تحدثت التقارير عن الارتفاع الملحوظ لمعدلات البطالة فيها. وتلك الحوادث محدودة النطاق ولا تشكل ظاهرة عامة في الساحة الإسلامية، فضلا عن أن بعضها من الجرائم العادية الناشئة عن الفقر والعوز. هذه الجرائم كانت محل استنكار وشجب من جانب القوى الأساسية وفي المقدمة منها جماعة العدل والإحسان (قاطعت الانتخابات)، وحزب العدالة والتنمية (يمثله 14 نائبا في البرلمان)، الأمر الذي يعني أن المجرى الأساسي للحركة الإسلامية أعلن معارضته لها. إن تلك الجرائم بولغ في حجمها من جانب الأحزاب العلمانية والقوى الأخرى صاحبة المصلحة بحيث نسبت إلى التيار الإسلامي في مجموعه، من دون تمييز بين الذين اقترفوها وبين الذين استنكروها من الناشطين الإسلاميين. إن هذه المبالغات لم تكن بريئة دائما وإنما أريد لها أن تسهم في سحب البساط من تحت أقدام القوى الإسلامية في الانتخابات التشريعية القادمة، التي يحل موعدها في أواخر شهر سبتمبر القادم، وهي المعركة التي يتحسب لها كثيرون من أنصار الحزب الحاكم، واضرابهم من العلمانيين واليساريين، حيث يخشون من أن تسفر عن حضور أقوى للاسلاميين في البرلمان القادم، لذلك فليس مستبعدا أن يكون تفجير القضية وفتح الملف في الوقت الراهن وتجديد الحديث عن حوادث وقعت في التسعينات، ذلك كله مرتب من قبل القوى العلمانية لاهتبال الفرصة، وتعميم الاتهام والشبه بحق الناشطين الإسلاميين جميعا، أملا في أن يؤدي ذلك إلى تعزيز موقف الحدب الحاكم، وأعراض الناخبين عن المرشحين الإسلاميين بعد تشويه صورتهم. لا مقارنة مع الجزائر والأمر كذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت أنه لا وجه للمقارنة التي يلوح بها البعض بين المغرب والجزائر، حيث الأجواء السياسية مختلفة (نطاق الحريات أوسع بكثير في المغرب) وكذلك المشكلات التي هي في الجزائر كامنة في السياسة بينما الأزمة في المغرب اقتصادية بالدرجة الأولى، وأيضا هناك اختلافات في طبائع الناس حيث هم في الجزائر أكثر حدة في التعبير عن انفعالاتهم، بحكم طبيعة المجتمع الصحراوي، والعكس إلى حد كبير في المغرب، البلد الزراعي بامتياز، وأغلب الظن أن تلك الاختلافات الجوهرية هي التي دفعت السيد عبد الإله بنكيران عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية إلى القول بأنه "لامجال للمقارنة بين البلدين فالمغرب ليس الجزائر ولن يكون". استنادا إلى ما سبق فإنني أزعم أنه لا خطر علي المغرب من التطرف الإسلامي، ولكن تظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة هي المرشح الأكبر لأن تكون مصدرا للخطر. وهي الأزمة التي دفعت عشرات بل مئات الآلاف إلى الهجرة وتفضيل المغامرة باحتمالات الموت غرقا في قلب المحيط، على البقاء في ظل الحياة القاسية في المغرب. فهمي هويدي