يُلاحظ كل متتبع لأحوال مجتمعاتنا أنه مع كل خصومة تنشب بين أفراده أو مجموعاته تتعالى الأصوات ويتم تبادل اللكمات، ومع تسارع الإيقاع يبدأ سيل السب والشتم الذي لا تقوى الأذن على سماعه في التدفق رويدا رويدا، فيُسب الآباء والأمهات والأجداد، الدين والملة والمعتقدات، وتصل ذروة ذلك كله إلى سب الذات الإلهية أمام المارة، أو حتى داخل المنزل وفي أحضان الأسرة. وقد شهد الشارع المغربي فيديوهات اهتز على إثرها الرأي العام الوطني، وأحدثت موجة من السخط والغضب بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر فيها شخص أو أشخاص يتبادلون الأدوار على سب الذات الإلهية المقدسة غير عابئين لمشاعر الناس ومعتقداتهم، بل يصر بعضهم على التصعيد في السب والشتم ليبين مدى تفوقه وإبداعه في هذا الصدد. التجديد تفتح هذا الملف في خضم تنامي هذه الآفة لتسليط مزيد من الضوء عليها، ولطرح مجموعة من الأسئلة حول هذه الآفة منها: كيف تعامل الدين مع مسألة السب والشتم بشكل عام؟ ولماذا يكثر في عصرنا التجرؤ على سب الذات الإلهية؟ وكيف نُوجّه هؤلاء إلى احترام الذات الإلهية وترك السب والشتم بشكل عام؟ ذنب عظيم يقتضي التوبة انتشرت في أوساط المجتمع المغربي خصوصا بالمدن الكبرى وبوتيرة مرتفعة ظاهرة السب والشتم التي تتعدى كل الحدود إلى سب الدين والرسول والذات الإلهية، ويلاحظ المتتبعون أن الظاهرة استفحلت وتساهل معها الناس فصارت حاضرة في أسواقهم ومتاجرهم وملاعبهم وحتى في أسرهم. ويلفظ بعض المهتمين بقضايا الأسرة الانتباه إلى أن معاملة الأبناء وجزرهم بالسب والشتم يؤدي إلى تكريس تلك الآفات السلبية في أقوالهم وسلوكياتهم، مما يؤدي إلى اكتساح واسع للظاهرة، ويؤدي إلى ضمور قيم الاحترام والأخوة والوحدة واحترام المقدسات. وقد لاحظ بعض المتتبعين أن السب والشتم هو عبارة عن عنف لفظي يؤدي إلى عنف مادي تتمثل أقصى تجلياته في القتل. ويتخذ هذا العنف اللفظي عدة أشكال تتراوح ما بين الجد والهزل وما بين والغضب والانشراح. ولما كان التجرؤ على الذات الإلهية المقدسة ذنبا عظيما، ولما كان باب التوبة مشرعا، أكد العلماء أن ما اقترف ذلك الذنب عليه الإسراع بالتوبة، وأن يجتهد في تحقيق توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف، والإقلاع عنه خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليه أبدا، مع الإكثار من الحسنات والاجتهاد في الطاعات إذهابا لهذه السيئة الضخمة، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. {هود: 114}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا). رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وحسنه الألباني. عمر تدرارني، أستاذ باحث في مجال الدراسات الإسلامية: الجهل بدين الله والأمية الدينية تجعل الفرد متجرأ على الله ورسوله إن السباب والشتم ظاهرة بشرية عُرفت في كل المجتمعات قديمها وحديثها، وقالت فيها الأديان كلمتها، لكن الأغرب أن تصبح عادة متوارثة تنتقل بين الأجيال، وتكون جزءا من شخصية الأفراد في المجتمعات الإسلامية. وأعظم ما في الأمر أن ينتقل تصفية الحسابات بين الأفراد إلى سب الله عز وجل مما يسقطهم في كبيرة لا يعلمون مداها، لأن ذلك من أعظم الكبائر، وفيه تطاول على الله تعالى. ومن أتى ذلك فعليه باستغفار ربه، والتوبة العاجلة، ولا يحتجن الواحد بكونه سب الله وهو غضبان، وللعلماء آراء في المسألة لمن رام معرفة ذلك. وسب الذات الإلهية على ثلاث مستويات كما نراها في مجتمعنا الإسلامي: أولا الغضب: وهو الغالب على أحوال كثير من الناس، فلما يغضب الواحد منا يشرع في السباب واللعن والطعن، وهو منهي عنه شرعا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن ليس باللعان، ولا الطعان، ولا الفاحش، ولا البذيء) (مسند الإمام أحمد). وأعظم منه، وأخطر أن يكون الدين والملة والله تعالى في معرض السباب، وهو المحظور في الشرع لأنه يلقي بصاحبه في مرتبة لا يدري ما هي. قال الله تعالى محذرا من ذلك: (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ* لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (سورة التوبة 65/66). ثانيا الهزل والمزاح: فصنف آخر من الناس يعتبر المزاح في مسائل العقيدة أمرا هينا، ويجعل سب الله والملة أمرا عاديا، وهو غير ذلك، وقد اعتاد البعض كذلك جعل الاستهزاء بالله في معرض النكتة، ولا يقول بذلك إلا جاهل لمقام الله تعالى. ثالثا الجد: وها النموذج الثالث من الناس يتجرأ على مقام الله سبحانه بالغمز واللمز والسب والقدح، وهذه وقاحة وليس حرية كما يريد أن يعتبرها البعض، وأما أن يعتبر الفرد نفسه على غير دين الإسلام – فذلك حق له- ولكن مما ليس من حقه أن يتجرأ بالسب على عقائد الآخرين، وهذا من باب الاحترام المتبادل الواجب توافره بين أفراد المجتمع، وكذا من الديمقراطية التي تقول باحترام رأي الأغلبية من الشعب ليس إلا. إنه الجهل بدين الله تعالى، والأمية الدينية التي تطغى على كثير من الناس هي من يجعل الفرد يتجرأ على الله ورسوله، مما يستوجب تضافر الجهود بين كل الفاعلين في الحقل الديني لعلاج هذا المرض الذي يشترك فيه الكبير والصغير والذكر والأنثى والمتعلم والأمي. ثم الخلل التربوي داخل الأسر التي تستهين بهذا السباب، بل تربي وتنشئ على عدم الاحترام سواء احترام الله، أوالدين، أو الرسول عليه الصلاة والسلام، أو الناس كافة، أو البيئة التي نعيش فيها.
حسن تلموت، أستاذ وباحث في مجال حوار الأديان بين العقدي والمشترك الإنساني: الشباب خلق غير إنساني وغير إسلامي قضية "السباب" كوجه من وجوه العنف، هو في الأصل سلوك لا يتناسب مع إنسانية الإنسان. إذ الإنسان كائن رزقه الله تعالى القدرة على نقل مشاكله من عالم المادة إلى عالم الرمز، وهو عالم القيم الذي يخوله الارتقاء بسلوكه التفاعلي إلى مستوى يؤَمِّن فيه احتياجاته، ويعالج فيه مشاكله باالتربية والتقنين والتواصل. على خلاف سائر الكائنات الأخرى غير الجامدة، والتي لا تملك إمكان التحرك إلا في عالم مادي صرف، يغيب معه إمكان تواصلها بنظام قيمي رمزي لتؤمن الاحتياجات، وتحل مشاكل البقاء بالخصوص، فلا يتبقى إلا العنف والصراع سبيلا واحدا يلغي فيه الأقوى الأضعف. فتكون المعادلة في الأخير أن العنف هو سبيل يلغي فيه أحد الآخر، وهو ما ينقل فاعله من استحقاق الانتساب للإنسانية إلى لزوم الخروج عنها. والسباب خلق غير إنساني وغير إسلامي، فإذا كان العنف خصيصة غير إنسانية، فإن السباب كوجه من وجوه العنف اللفظي يبقى فرعا عن الاستنتاج السابق، ولأن الإسلام لا يناقض المخزنات الفطرية، ولا الاستنتاجات العقلية الإنسانية، فإن نبذ العنف – ماديا ورمزيا- من أجلى مظاهر اتساق مسارات الإنسانية السليمة مع القطعيات الدينية الإسلامية. أخرج الترمذي والإمام أحمد والحاكم في المستدرك، والبيهقي.. وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء). وفي السياق ذاته أخرج الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانا)، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ! فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ). فإذا كان الحديث الأول والحديث الثاني يقطعان بإلغاء صفة اللعن والبذاءة والفحش عن المؤمن، وباستحالة اجتماع الإيمان مع صفة اللعن في محمل واحد، فإن النص الحديثي الثالث يؤشر بوضوح على أن الإكثار من اللعن يلغي طبيعة الإنسانية المتناسقة مع الإيمان، ويحل محلها صفة أخرى لا يليق بها سوى أن تكون من أهل النار، ولا يدافع هذا التحول إلا الإكثار من التوبة التي لابد لها من الإقلاع والاستغفار والإكثار من عمل الخير الذي رمز له الحديث بالإكثار من التصدق، والتوبة هي التي تصقل معدن الإنسان وتدافع مساعي تحوله إلى غيره. وإذا كان التوسل إلى حل الخلافات وتأمين الاحتياجات بالعنف المادي أو الرمزي – الذي يعد "السباب" من أجل مظاهره- يعطل عند صاحبه الانتساب إلى الإنسانية، ويصادم بل يلغي الإيمان، فإن سباب الذات الإلهية أطم وأغم، ذلك أن الإنسان مُقر- بالوعي أو بالفطرة- أن الله تعالى مصدر النعم، ولذلك فالأجدر به أن يقابل هذا الإنعام بالشكر والحمد، وليس بالتنكر والجحود والسباب، وهذا مما تمليه إنسانيته قبل حتى تحديد اختياره العقدي. وحين نناقش الظاهرة على مائدة الإسلام فالخطب أكبر بكثير، إذ أن سباب الذات الإلهية – والعياذ بالله- لا يمكن وصفها إلا بالكفر البواح المخرج عن الملة، بمعزل عن تعيين الفاعل. لكن الغالب على الناس اليوم أنهم إنما يتوسلون بها إلى إثبات الذات أو إخافة الخصوم، ولا يحل في أذهنهم أنهم يسبون "الله" تعالى قصدا، لكن مع ذلك فأقل ما يقال في توصيف الظاهرة إنها تُحل صاحبها في محل من يلعب بما لا يجوز اللعب به لخطورته، فالله –عز وجل- يقول "مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ74″ سورة الحج آية74، "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ67″سورة الزمر الآية67 والأخطر في رصد الظاهرة أنها صارت من العموم بحيث لا يكاد يخلو من أصحابها قطر ولا مكان، ولذلك فإلى جانب رصدها بالبحث والدراسة النظرية العلمية، ومحاربتها بالتربية والتعليم، لا بد من التعامل الصارم معها لأنها تعتدي على حق الأمن الديني للمجتمع.