إن السياسة تتغذى على الإقتصاد، لذلك فإن الإقتصاد السياسي الذي يسلط الضوء على أسلوب الإنتاج السائد و العلاقات التي تفرزها الدورة الإقتصادية قد يفيد أيضا في فهم ومعرفة الأسلوب الذي تعتمده الحكومة في تدبير الموارد المتوفرة، و قدرتها على تحصيل الديون العمومية، و مدى سعيها في هاتين العمليتين لخدمة الرفاهية المادية لأفراد المجتمع. و لئن كان هذا المُنْطلق العلمي سليما، فإن الحال أن مناسبة سياسية مثل مناقشة وثيقة قانونية و محاسبية سنوية ستشكل من دون شك فرصة لإختبار الطروحات السياسية والمقولات الإقتصادية خلال فترة زمنية معينة، يتعلق الأمر بمناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2015، و الذي أعدته حكومة الأستاذ عبد الإله ابن كيران في ظرفية سياسية متميزة يطبعها الإستعداد للإستحقاقات الإنتخابية المحلية و إبراز حصيلة الحكومة بعد ثلاث سنوات من فترة ولايتها. كما تبرز خصوصية مشروع قانون المالية المقبل، كأداة بيد الحكومة لتنزيل مضامين البرنامج الحكومي، في سياق أكد فيه جلالة الملك على أن الجميع بصدد سنة تشريعية فاصلة، سواء تعلق الأمر بإستكمال إقامة المؤسسات أو بتفعيل الجهوية المتقدمة أوبإصلاح منظومة التربية و التكوين، بالإضافة إلى ضرورة إبراز قيمة الرأسمال غير المادي لبلادنا، وضرورة إعتماده كمعيار أساسي خلال وضع السياسات العمومية، و وجوب وضع المغرب على سكة البلدان الصاعدة. و إنطلاقا من هذه الرغبة الملكية التي تسعى إدخال المغرب نادي الدول البازغة بعدما راكم مشروعه التنموي أشواطا مهمة في هذا الشأن، فإنه يفترض بمشروع قانون المالية الحالي أن يشكل منعطفا حقيقيا في تدبير الموارد العمومية و توجيه الإنفاق العام لصالح القطاعات المنتجة للثروة الوطنية، وذلك على النحو الذي يحول هذا المشروع إلى دعامة حقيقية للنهضة الإقتصادية لبلدنا، و رافعة لدولة قوية إقتصاديا و قادرة على تحقيق نمو مستدام ينبني على الإنتاج الصناعي التنافسي، وبلورة مشروع نظام إنتاجي وطني ممركز على الذات و يستمد نجاعته من خلال سياسات عمومية مندمجة تضمن المشاركة للجميع في عائدات النمو. و ترتيبا على كون فلسفة الإقتصاد السياسي ترتكز أساسا على بحث منشأ الدول من الناحية الإقتصادية و رصد مختلف العوامل المؤثرة في ذلك، فإن إختبار فرضية دعم مشروع قانون المالية الحالي لتوجهات النهوض بإقتصاد المغرب و وضعه على سكة الدول الصاعدة يقتضي تسجيل الملاحظات التالية: 1- إن مناقشة البُعد المتعلق بإرتكاز مشروع قانون المالية 2015 على ضوابط الإقتصاد السياسي يُحتم رصده في إنطباق تام مع مفردات المواقف السياسية والإقتصادية والثقافية التي أفرزته، و من ثمة فلا يسوغ القول بإنفصام النص عن الواقع الذي ينتجه، بل يفترض الإنسجام مع منطق التغيير في ظل الإستمرارية. فلو صدر هذا المشروع وفق أحكام مشروع القانون التنظيمي للمالية المُعَد و المرتقب صدوره قريبا لانخرط أكثر في منطق فعالية و نجاعة التدبير العمومي المتوافقة مع أساسيات الإقتصاد السياسي الرامية إلى تسخير الموارد و الإنفاق العام خدمة للمجتمع. فإصلاح منظومة إقرار ميزانية الدولة يشكل إصلاحا للدولة نفسها، و لاشك أن هذا الأمر لا يتم إلا بالإنتقال من فلسفة تدبير الوسائل إلى ثقافة البحث عن تحقيق أفضل النتائج. وعليه فإنه بالإضافة إلى الطابع البرغماتي الذي تصطبغ به هذه المقاربة الجديدة في تدبير الميزانية، فإنها تعمق أكثر من ذلك البعد الديموقراطي في التدبير العمومي و تنقل ثقافة مراقبة التسيير إلى القطاع العام، كما هو الحال بالنسبة للمجهود الذي بُذل على مستوى مواءمة محاسبة الدولة مع محاسبة المقاولة و الذي كلف زهاء 10 ملايير درهم. علاوة على ما تقدم، تشكل هذه المقاربة الجديدة فرصة سانحة لتأطير السياسة العامة للدولة في برامج يقع التصويت عليها من لدن البرلمان، إذ سيصبح الترخيص البرلماني ليس على ميزانيات التسيير و الإستثمار و إنما على برامج يقع الإلتزام بها. فالبرامج القطاعية الوزارية تشكل تجميعا للوسائل المتاحة للسياسة العامة لوزارة معينة ضمن إستراتيجية محددة و بأهداف مضبوطة ومؤشرات فعالية و نجاعة دقيقة. كما توفر هذه المقاربة الجديدة في تدبير الميزانية تحديد الوسائل وأنماط التدخل لمختلف الفاعلين في هذه البرامج، بالإضافة إلى تحديد المسؤوليات بشكل أكثر دقة و يسمح بالتجسيد الحقيقي لتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المقرر في الفصل الأول من دستور فاتح يوليوز 2011. 2- إن أغلب الفرضيات التي إنبنى عليها مشروع قانون المالية لسنة 2015 وردت واقعية وتعكس مرونة في التعامل مع إكراهات الظرفية الإقتصادية العالمية المتسمة بضعف الطلب الداخلي لدى الشركاء التجاريين للمغرب في القارة العتيقة (أوربا)، حيث إستند مشروع ميزانية 2015 على سعر للبترول في حدود 103 دولار للبرميل، علما أن هذا السعر قد تراجع بشكل ملحوظ خلال الأشهر الأخيرة لينزل عن عتبة 75 دولار أمريكي للبرميل الواحد في السوق الدولي. أما معدل النمو فلا يتعدى سقف 4.4 % مقارنة مع إقترحه صندوق النقد الدولي في آخر تقاريره، حيث أقر نسبة تفوق 4 % بالنسبة للمغرب. وبخصوص العجز الميزاني فقد حددها المشروع في نسبة 4.3 %، و هي أيضا نسبة معقولة مقارنة مع النتائج الإيجابية التي تم تحقيقها بفضل إصلاح صندوق المقاصة و تحسن مستوى الموجودات من العملة الصعبة نتيجة لعائدات القطاعات الحيوية و مداخيل صناعة تركيب السيارات و الطائرات التي خففت من وطأة عجز ميزان الأداءات. و الملاحظ أن من شأن واقعية هذه الفرضيات أن تثمن الإعتمادات المرصودة برسم هذا القانون المالي لتساهم في مسلسل الإصلاح الشمولي الذي أطلقت ديناميته الحكومة الحالية، من خلال إجراءات جريئة كإصلاح صندوق المقاصة الذي يشكل بيت الداء الإقتصادي و المالي للمغرب، و التي كان من باب أولى أن تعكف الحكومات السابقة على إصلاحه سعيا وراء الرفع من تنافسية الإقتصاد الوطني والبحث عن نموذج جديد للتنمية المستدامة يروم القطع مع الإقتصاد الريعي ويسعى إلى البحث عن بدائل جديدة للإنتاج، لاسيما و أن العنصر البشري المؤهل في المغرب يشكل الحلقة القوية ضمن الثروة الوطنية. 3-إن الإختيارات الميزانياتية للحكومة تدعم الحركية الاقتصادية بدليل أن مشروع قانون المالية المقبل قد وضع من بين أولوياته تحسين تنافسية الإقتصاد الوطني وإنعاش الإستثمار الخاص ودعم المقاولة. فنسبة النمو الإقتصادي المسجلة منذ سنة 2012 تجاوزت عتبة 2%، و هي نسبة داعمة للقطاعات المنتجة التي يراهن عليها المغرب على الرغم من نسبة الإقتراض المسجلة إلى اليوم، و ذلك بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، حيث مكن المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي المغرب من خط الوقاية والسيولة بقراره الصادر في 28 يوليوز 2014، و أكد على تحسن الأداء الكلي للإقتصاد المغربي على الرغم من صعوبة البيئة الخارجية. إنه على الرغم مما تميزت به هذه المرحلة من ركود إقتصاديات منطقة اليورو، نتيجة لتداعيات الأزمة المالية و إرتفاع سعر صرف الدولار و إستمرار الإضطرابات الجيوسياسية، فإن هذه الإكراهات لم تحل دون إعتراض سبيل الأداء الجيد للحكومة، حيث تمكنت من السيطرة على العجز الميزاني الذي إنتقل في غضون سنتين من 7% إلى 4%، و ذلك في محاولة جادة منها الإستعادة التدريجية للتوازنات الماكرو-إقتصادية. 4-ينصرف كذلك المجهود الحكومي من خلال مشروع قانون المالية إلى تحرير الفضاءات الميزانياتية و دعم تسريع الإصلاحات الهيكلية الكبرى، حيث مكنت مثلا إجراءات إصلاح صندوق المقاصة المطبقة من المساهمة في تحسين مستوى تغطية الموارد للنفقات و إستثمار مداخيلها في توفير هوامش إضافية توجه للإستثمار المنتج والخدمات الإجتماعية، و ذلك من خلال العمل على مواصلة دعم البرامج الإجتماعية القطاعية و دعم التماسك الإجتماعي و السعي لتحقيق تنمية إجتماعية متوازنة. و قد تم هذا الأمر بفضل مواصلة تمويل برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بنسبة تقارب 60% من الغلاف المالي المخصص لها من الميزانية العامة للدولة، و كذا النهوض بالرأسمال البشري، عبر مواصلة إصلاح منظومة التربية والتكوين برصد مبلغ 45,9 مليار درهم لقطاع التربية الوطنية و مبلغ يناهز 9 مليار درهم لفائدة قطاع التعليم العالي. إن البعد الإجتماعي الحاضر في مشروع قانون المالية تدعمه بعض المؤشرات التي يمكن إستقراؤها من ميزانيات القطاعات الوزارية، حيث سيخصص مبلغ 130 مليار درهم للقطاعات الإجتماعية، أي حوالي52% من مجموع إعتمادات الميزانية العامة، بالإضافة إلى إحداث 22.510 منصب مالي أي بزيادة قدرها 25% من عدد المناصب المالية. 5- يعتبر التغيير الهيكلي لإستراتيجية الحكومة، في ما يخص تسخير المالية العمومية تحقيقا للإقلاع الصناعي و خدمة لمتطلبات التنمية المستدامة، الخيط الناظم لمعظم التدابير المقترحة في مشروع ميزانية 2015، و ذلك من خلال التركيز على فعالية النفقة العمومية إنسجاما مع مرتكزات الإقتصاد السياسي الناجعة لأجل دعم الإلتقاء بين السياسات القطاعية و الإهتمام بالقطاعات الأكثر إنتاجية و التي توجد على رأسها الصناعة. و في هذا الصدد، يتم توجيه الإستثمار العمومي نحو تأهيل البنية التحتية و تسريع الإستراتيجيات القطاعية كتفعيل المخطط الوطني لتسريع التنمية الصناعية 2014-2020، و الذي يهدف خلق 500 ألف منصب شغل نصفها من الإستثمارات المباشرة الأجنبية و النصف الآخر من النسيج الصناعي الوطني المتجدد، و وضع آليات الدعم المالي والتقني من خلال إحداث صندوق التنمية الصناعية والإستثمارات بغلاف مالي يقدر بثلاث ملايير درهم، و ذلك في أفق الرفع من حصة القطاع الصناعي في الناتج الداخلي الخام ب 9 نقط لتبلغ %23 سنة 2020، دون إغفال توزيع الإستثمارات العمومية وفق منظور يدمج العدالة المجالية. فحصة الصناعة في الناتج الداخلي الخام ينبغي أن تطال مستويات مهمة، كما راهن على ذلك النموذج الألماني مما جعله متميزا ضمن بلدان الإتحاد الأوربي. فدعم القطاع الصناعي و جعله قاطرة للتنمية هو المؤشر الأساسي على معافاة الإقتصاد، لأن من شأن تنويع المنتوج الصناعي الموجه للتصدير الحد من العجز في الميزان التجاري، و أن التحدي الذي يظل قائما هو ترشيد نفقات الإستثمار و ربطها بالإنجازات. و في هذا السياق، سجل مكتب الصرف أن المغرب بدأ يجني ثمار خارطة طريقه الإقتصادية الجديدة و الرامية إلى التركيز على القطاع الصناعي، حيث أكد وجود تحسن في نسبة العجز التجاري، و التي تراجعت ما بين يناير وأكتوبر 2014 بنسبة 5.9 % مقارنة مع نفس الفترة من السنة الفارطة. 6- يسعى مشروع قانون المالية للسنة المقبلة أيضا تشجيع الإستثمار الخاص ودعم المقاولة وخاصة المقاولات الصغرى و المتوسطة من خلال إجراءات تروم تثمين مجهود تحسين مناخ الأعمال وتشجيع الإستثمار الخاص، عن طريق تسريع أداء المتأخرات على الإدارات العمومية و كذا الإرجاعات الضريبية على القيمة المضافة، و مواصلة معالجة تراكم الدين الضريبي وتفعيل إستفادة المقاولات من حصة %20 من الصفقات العمومية، بالإضافة إلى إحداث صندوق للإستثمار مستقبلا بقيمة 50 مليون دولار بتعاون مع البنك الدولي، والذي سيواكب المقاولين والمقاولات المبتكرة الذين لديهم إحتياجات خاصة في مجال التمويل. فمشروع قانون المالية لسنة 2015 يشكل وسيلة بيد الحكومة تضخ من خلاله على المدى المتوسط الموارد المالية اللازمة لتحقيق الإقلاع الإقتصادي، و تواصل من خلاله تعزيز الإستثمار العمومي كرافعة أساسية للتنمية. فهذا المجهود الذي توظفه الحكومة يعكس رؤيتها في ما يخص الإقتصاد السياسي للنفقة العمومية والتوجه الذي يؤطر تعزيز النموذج التنموي و الإقتصادي للمغرب من خلال توجيهه صوب تعزيز البنيات التحتية والذي يبلغ حوالي 190 مليار درهم في هذا المشروع. 7-إن المقاربة المعتمدة في وضع مشروع قانون المالية للسنة المقبلة تبدو أكثر واقعية، ويتبدى هذا الأمر من حرص المشرع المالي المغربي على تمثل طبيعة العلاقة بين الإقتصاد الناشئ والاقتصاد العالمي، و التي هي نفسها في تغير مستمر، و تندرج ضمن آفاق عامة قد تساعد على تعزيز السيادة أو على النقيض من ذلك قد تضعفها، كما قد تساعد على تعزيز التكافل الإجتماعي أو قد تفرغه من محتواه. فالسلم الإجتماعي يحتاج من دون شك إلى نمو إقتصادي و الذي يستدعي بدوره توفير التمويلات المالية اللازمة لذلك، مما يقتضي الحاجة إلى المدخرات المالية من العملة الصعبة. و هذا ما تراهن عليه الحكومة من خلال مشروع الميزانية العامة، حيث بالقدر الذي تفتح المجال للمبادرة الفردية عن طريق تشجيع المقاولة الخاصة بإعتبارها الحلقة الأساسية التي يدور حول رحاها النشاط الإقتصادي، تعمل على الإهتمام بالتوازنات الإجتماعية من خلال النهوض بالمعطيات و الشروط الأساسية لتثمين الرأسمال البشري للمغرب. فالرهان اليوم أكثر من أي وقت مضى على توسيع قاعدة الطبقة الوسطى لأنها مناط التغيير السياسي و الإقتصادي في السنوات المقبلة بالنسبة للمجتمعات و الدول التي ينخرط إقتصادها ضمن الإقتصاديات الصاعدة. وهو مطلب يدعو كلا من السلطات العمومية و القطاع الخاص بالمغرب إلى الإنخراط في دينامية الإقلاع التنموي. و ختاما يمكن القول، أن تحليل مشروع قانون المالية طبقا لمقاربة الإقتصاد السياسي يفيد أكثر في معرفة المجالات التي سيصرف فيها المال العام برسم سنة مدنية كاملة، كما يكشف عن المسحة السياسية التي إصطبغت بها التدابير المقترحة في ميزانية الدولة، والتي أبانت عن إنخراطها في دعم النهوض بإقتصاد المغرب و وضعه على سكة الدول الصاعدة. ولئن كانت مساهمة هذه الميزانية المرتقبة بالنسبة للسنة القادمة لا تتعدى نسبة 43% من الناتج الداخلي الخام، إلا أنها تبقى حاسمة في توجيه قوى الإنتاج الإجتماعية و حثها على التطور سواء من خلال الرفع من كفاءة أدوات الإنتاج أو التأثير في طبيعة الطبقات الفاعلة في العملية الإنتاجية. و الحال أن المشروع الحالي يدفع في إتجاه تحويل الطبقة المنتجة إلى أن تصبح نخبة إقتصادية واعدة من شأنها أن تقود قاطرة التنمية الصناعية و تساهم في تسريع وثيرة تسجيل المغرب ضمن نادي الدول الصاعدة.