(1) اختلفت الثورة الليبية لدى اندلاعها عام 2011 في مدينة بنغازي عن كل الثورات والانتفاضات التي شهدتها الدول العربية وغير العربية. فلم يكن سهلاً أن يتصدى شعب أعزل لحاكم عرف عنه انه لا يتورع عن كبيرة. وبالفعل لم تتأخر ردة الفعل الوحشية، بدءاً من قصف مظاهرات طرابلس السلمية بالطائرات، ثم التوعد بالزحف على بنغازي، و»تطهيرها» بحسب العبارة المشهورة: «شبر..شبر، بيت..بيت، دار ..دار، زنقة..زنقة». (2) بنفس القدر انعكست شجاعة أهل ليبيا الأشاوس في التصدي لجنود القذافي في بنغازي وهم عزل من كل سلاح. وكانت آية من آيات الزمان أن الشباب العزل زحفوا على معسكرات الجيش والأجهزة الأمنية، وانتزعوا منهم السلاح، واستخدموه لتحرير بنغازي وأكثر مدن الشرق الليبي من القتلة، ففر أكابر المجرمين وهم لا يلوون على شيء. ولكن القذافي وجنده لم يرعووا، فأعادوا الكرة مستخدمين الأسلحة الثقيلة لقصف المدن الآهلة بالسكان، لا يبالون من يقتل ومن يعيش. فكان أن تصدى لهم العالم بردع يليق بالجرم، وخلص العالم من شرورهم.. إلى حين... (3) وكما حدث في مصر من انتقام من الثورة والثوار من قبل أزلام النظام السابق، فإن بنغازي تشهد اليوم من ينفذ توجيهات القذافي من وراء القبر، فيلاحق ثوار بنغازي وأبطالها «دار، دار... زنقة، زنقة». هنا أيضاً لا توفر النساء والأطفال، ولا يتورع المجرمون عن إثم من العظائم، وقصف الأبرياء بالطائرات والمدافع. (4) بعد أن كانت ليبيا أكثر دول الربيع العربي وعداً بالاستقرار والازدهار، تحولت اليوم بمعجزة إلى بلد تتجمع فيه شرور كل البلدان الأخرى التي نكبت في ثوراتها. فهي تعيش، كما هو شأن مصر، حالة انقلابية يقودها ضابط فاشل، ويدعمها انقلابيو مصر ومن مالأهم. وهي تعيش، شأن سوريا حالة استقطاب دموية لا نهاية لوحشيتها وبشاعتها. وهي تعيش، شأن اليمن، حالة انقسام قبلي ومناطقي يهددها بالتقسيم. (5) تشبه ليبيا مصر في أن ثوارها انشغلوا بتنازع الغنائم، وتركوا ظهرهم مكشوفاً فأتاهم العدو من حيث لم يحتسبوا. ففي البلدين، طعن الثوار أنفسهم في الظهر، وأعطوا أعداء الثورة والشعب الفرصة ليرتدوا زي «المنقذ» للبلاد من الفوضى والتطرف. (6) لا يمكن تبرئة «ثوار» ليبيا من المسؤولية في الانحدار التي وصلت إليه البلاد، حيث أن فئات لا تحصى من الثوار الحقيقيين وممن تمسحوا بالثورة وركبوا موجتها افتقدوا كل انضباط، وتحولوا إلى ما يشبه العصابات المسلحة التي تضع نفسها فوق القانون وخارجه. ورفض كل هؤلاء وضع سلاحهم أو الانخراط في الأجهزة النظامية. وأدى ذلك إلى إضعاف مؤسسات الدولة، وشرعنة التمرد عليها، وإعطاء العذر والشرعية لعصابات الإجرام لكي تتزي بزي الثوار. فلم يعد هناك فرق بسبب هذا الوضع بين العصابة الإجرامية و «الكتيبة الثورية». (7) لهذا السبب فإن أول انتصار للثورة الليبية الحقيقية يجب أن يبدأ بإعلان حل كل الميليشيات، وانخراط من يريد الاستمرار في العمل المسلح في الجيش الوطني، وبصورة فورية. ويكون هذا هو الفارق بين الثوار الحقيقيين والمنافقين. فكل ميليشيا مسلحة يجب أن تعتبر من الآن حالة إجرامية، في حين يجب أن ينضوي كل الثوار تحت راية الدولة. فالثورة حررت الشعب الليبي من الطغيان المسلح حتى تقيم مؤسسات الدولة القائمة على حماية المواطن وحرياته وحقوقه. ولا محل في دولة كهذه لميليشيا تتحدث باسم الشعب. فمن يتحدث باسم الشعب هو الهيئات الديمقراطية من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات منتخبة. ولا مكان لميليشيا تدعي حماية الشعب، فمن يحمي الشعب هو جيشه وأجهزة أمنه الخاضعة بدورها لمؤسسات الدولة وممثلي الشعب المنتخبين. (8) ينبغي على أهل ليبيا الاعتبار بمصائب غيرهم قبل فوات الأوان. فلم تنحدر الأمور هنا إلى ما بلغته في سوريا أو مصر من إجرام وسفك للدماء. وليس هناك بين المخلصين من أبناء البلاد خلاف كبير. الكل يدعي أنه مع الدولة ومع حق الشعب في الحرية والكرامة. وما نراه من استقطاب مفتعل بين برلمان طبرق ومجلس بنغازي لا أساس له في الواقع، سوى أن قصر النظر دفع كل طرف، كما في مصر، للاستعانة بمن يختلف معهم كثيراً ضد من يختلف معهم قليلاً، والحصاد ندامة للطرفين. (9) كما قال الإمام علي بن أبي طالب، فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه. ففي مصر كما في ليبيا، كان الثوار، ومنهم حكومة مرسي وحكومات طرابلس، يجتهدون في بناء نظام ديمقراطي فأخطأوا الهدف. أما خصومهم، فكانوا يريدون تدمير الديمقراطية فنجحوا. (10) ينبغي الرجوع إلى الحق وإدراك أن الاستقطاب الحقيقي هو بين أنصار الديمقراطية وأعدائها، وضرورة أن يتضأمن الأوائل فيما بينهم لإنقاذ الديمقراطية والثورة والبلاد. والمطلوب بناء تحالف ديمقراطي عريض عبر قيام الثوار الحقيقيين بتقديم تنازلات للآخرين. (11) كنا قد كتبنا على هذه الصفحات تحذيرات لثوار ليبيا وقبل ذلك مصر، ندعوهم فيها إلى تقديم التنازلات المؤلمة لتجنب تمزيق البلاد. وقد كتبت قبل ثلاثة أشهر من انقلاب مصر المشؤوم أقول لإخوان مصر أن عليهم الخضوع لابتزاز من يهددون بتمزيق البلاد نكاية فيهم. فالأحرص على الوطن هو الذي يضحي للحفاظ عليه، ولا ينتظر ذلك ممن لا تهمه إلا نفسه. وأرجو ألا نحتاج لترديد هذه النصائح على آذان صماء.