رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض يعد شاهدا من أهل العقد والربط في السلطة الفلسطينية، وعندما يقول إن "رؤية" منظمة التحرير في "مبدأ اللاعنف … تعرضت لهزيمة منهجية وباتت غير مجدية بنظر الرأي العام الفلسطيني" (الدستور الأردنية يوم الأربعاء 5 نونبر 2014) فإنه يؤكد الفجوة التي تتسع يوميا بين الشعب الفلسطيني وبين قيادته. إن الانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ أشهر في القدسالمحتلة تكاد تصل بالعلاقة بين الشعب الفلسطيني وبين قيادته إلى "نقطة الكسر" ما لم تتدارك القيادة تصويب هذه العلاقة بسرعة بعد أن وصلت علاقتها مع "الشريك" الإسرائيلي في ما سمي "عملية السلام" إلى نقطة كسر فعلية. فرئيس حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يهدد فقط ب"قبضة حديدية" ضد عرب فلسطين في القدس، بل يمارسها، ورئيس بلدية الاحتلال في المدينة نير باركات يقول إن بلديته "دخلت معركة" ضدهم، بينما الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتعهد بعدم السماح ب"اندلاع انتفاضة جديدة، لا سيما في القدس" ويدعو إلى "التهدئة". لكن الشعب كما يدل تطور الأحداث لا يأبه بل يتحدى "القبضة الحديدية" للاحتلال ويبدو غير معني ب"تعهد" قادته وبدعوتهم للتهدئة ولا معنيا بخذلان أشقائه في العروبة والدين ومصمما على تقرير مصير بيت المقدس بلحمه الحي. وبالرغم من "تعهد" عباس وإعلانه في حديثه الأخير للقناة العاشرة في تلفزيون دولة الاحتلال بأنه لو كان معنيا "بالدعوة لانتفاضة لفعلنا ذلك خلال الحرب" الأخيرة على قطاع غزة، مذكرا نتنياهو في الحديث ذاته بأنه "خلال 50 يوما لم تطلق رصاصة واحدة من الضفة الغربية"، فإن نتنياهو يحمله و"شركاءه في حماس" مسؤولية "التحريض" على ما وصف ب"الهبّة" أو "فتيل الانتفاضة الثالثة" الذي اشتعل في القدس. غير أن كليهما يدرك تماما بأن الحراك الشعبي ضد الاحتلال في المدينة لم يعد يأتمر بأمر أي منهما، فنتنياهو عاجز عن وقفه و"عباس لا يقود" هذا التطور كما كتب مساعد محرر مجلة "كومنتري" الأميركية سيث ماندل في عددها للشهر الجاري. فالقدس هي التي تقود النضال الوطني اليوم بعد أن كانت لفترة طويلة مجرد عنوان له، ربما لأنه لا سلطة ل"السلطة الفلسطينية" فيها ولأنها تقف وجها لوجه أمام الاحتلال من دون أي "حاجز" فلسطيني بينها وبينه. لقد أعلن عباس والأردن، المعنيان مباشرة بالحرم القدسي الشريف، وكذلك جامعة الدول العربية بأن الاحتلال قد تجاوز "الخطوط الحمر" في المسجد الأقصى، لكنهم جميعا دعوا إلى "التهدئة" في القدس. ومن الواضح أن دعوتهم لا تلقى أية آذان صاغية لدى المقدسيين العرب، فهؤلاء في واد وقادتهم المفترضين في واد آخر. إنها نذر مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني تتجاوز إطار اتفاقيات أوسلو التي حاصرت هذا النضال قسرا وقهرا ضمن حدودها الجائرة، وقد لفت هذا التطور انتباه سيث ماندل ليضيف بأنه تطور "ينذر بوصول النظام السياسي الفلسطيني لمرحلة ما بعد عباس" وليلاحظ أيضا بأن هبة المقدسيين العرب فيها "طابع عفوي" بالرغم من مساهمة "أعضاء من حماس" فيها "في بعض الحالات". صحيح أن حركة حماس قد أعلنت بأن الشهيد إبراهيم العكاري منفذ عملية "دهس" جنود الاحتلال ومستوطنيه في القدس يوم الأربعاء الماضي هو "ابنها"، لكن نزول الشهيد من سيارته ليهاجم من لم يدهسه منهم بقضيب حديدي إنما يعبر عن غضب متراكم و"دافع ذاتي" يتجاوز كل القيادات والأطر التنظيمية الفصائلية بقدر ما يعبر عن حالة شعبية فلسطينية تؤكد "الطابع العفوي" للهبة المقدسية الذي أشار إليه المعلق الأميركي ماندل. فقد فاض الكيل بالقدس بحيث لم تعد "القبضة الحديدية" للاحتلال قادرة على منع الانفجار الشعبي ولا عادت دعوات "التهدئة" مقنعة لتأجيله. إن الفجوة تتسع بوتيرة متسارعة بين الشعب الفلسطيني وبين قيادته المعترف بها دوليا "الممثل الشرعي والوحيد" له، فإما أن تلحق به لتقوده متناغمة مع نبضه أو تتخلف عنه ليطويها التاريخ بين أوراقه. فالطابع العفوي والشعبي ل"هبة القدس" يذكر بمثيله في الانتفاضة الأولى التي فجرها استشهاد أربعة عمال فلسطينيين في غزة في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر عام 1987، وبمثيله في "انتفاضة الأقصى" الثانية في الثامن والعشرين من أيلول / سبتمبر عام ألفين التي فجرتها زيارة واحدة قام بها رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق آرييل شارون للمسجد الأقصى، بينما تكتفي القيادة الفلسطينية الآن بالدعوة إلى التهدئة ردا على الزيارات اليومية لعتاة المستوطنين المتطرفين وقياداتهم ومنهم وزراء ومخططاتهم المعلنة للحرم القدسي التي عدها الرئيس الفلسطيني بمثابة "إعلان حرب". وبالدعوة إلى "التهدئة" كذلك ترد القيادة الفلسطينية على استشهاد عشرة فلسطينيين وجرح (147) منهم واعتقال (390) آخرين واحتجاز (327) غيرهم واقتلاع (633) شجرة من زيتونهم وهدم (32) بيتا لهم وبناء (2610) وحدة استيطانية جديدة في مستعمراتهم غير الشرعية ومصادرة (97) دونما من أرضهم خلال شهر واحد فقط هو تشرين الأول الماضي، حسب التقرير الشهري لمنظمة التحرير الفلسطينية. أثناء تشييع الشهيد معتز حجازي، منفذ عملية محاولة اغتيال رئيس حملة "بناء الهيكل" في الحرم القدسي يهودا غليك، تردد في القدس الهتاف الفلسطيني "يا ضفة يلا، منشان الله"، على ذمة المحلل السياسي الفلسطيني هاني المصري في مقال له نشرته السفير اللبنانية يوم الثلاثاء الماضي، لكن لا مجيب حتى الآن، فاستجابة الضفة الغربيةالمحتلة لهذا النداء لم تتجاوز حتى الآن التجاوب الرمزي. ومن الأسباب، في رأي المصري، "عدم وجود قيادة للانتفاضة" ومعارضة الرئيس عباس "لاندلاع انتفاضة جديدة" ودعوته إلى "التهدئة". ويضيف محللون آخرون أسبابا أخرى منها "التنسيق الأمني" الفلسطيني مع الاحتلال وسياسة "الاقتصاد الاستهلاكي" للسلطة الفلسطينية. والخلاصة هي أن هذه السلطة تقف حاجزا بين الاحتلال وبين انفجار السخط الشعبي عليه. في الثالث من الشهر التاسع عام 2012 كتب المحلل السياسي الإسرائيلي آرييل كاهانا يقول إن "السلطة الفلسطينية تمثل حاجزا رئيسيا وحجر عثرة" أمام اشتعال فتيل الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي سوف تشتعل في حال "انهيارها". لكن هبة القدس تشير إلى أن "الانتفاضة آتية عاجلا أم آجلا"، كما كتب المصري، والأرجح أنها سوف تجتاح السلطة في طريقها إذا لم تبادر إلى تغيير دورها جذريا لتلتحق بشعبها. لا بل إنه "من الواضح أن الانتفاضة الثالثة قد حلت هنا … ودوامة التطورات خارجة على السيطرة … والسؤال هو ليس ماذا نسميها، … بل ماذا سيفعل قادتنا حيالها" كما كتب ديفيد برين في الجروزالم بوست العبرية الأربعاء الماضي، أو أن هبة القدس "تضيف إلى المخاوف من أن انتفاضة ثالثة تتخذ شكلها" الآن كما جاء في تقرير للنيويورك تايمز في ذات اليوم، أو أن "الأراضي الفلسطينية تشهد انتفاضة ثالثة بدأت منذ عشرة أشهر" كما كتب المحلل الأمني والعسكري في "يديعوت أحرونوت" العبرية رون بن يشاي في اليوم ذاته ايضا. ويتفق معهم أمين عام حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي الذي قال في الثلاثين من الشهر المنصرم إن "الانتفاضة الثالثة التي تتصاعد على شكل موجات متتالية ستستمر" ولن توقفها "القبضة الحديدية" للاحتلال، لكنه لم يذكر ما إذا كانت السلطة الفلسطينية سوف تظل قادرة على الوقوف "حاجزا" في وجهها. في تقرير لها في الخامس من هذا الشهر وصفت "رويترز" هبة القدس بأنها "أكبر فترة اضطراب تعيشها المدينة منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ألفين" قبل أن تقتبس من الشاب المقدسي حمادة أبو عمر قوله: "دعوهم يعتقلوننا، دعوهم يطلقون النار علينا، لا يهم … إننا لن نستسلم أبدا".