قبيل انعقاد المؤتمر الخامس الأخير لحركة التوحيد والإصلاح وبعده تداولت بعض الصحف والأوساط توقعات وتعليقات تنم عن أنه لفرط ما ألف المجتمع السياسي والإعلامي أن تكون محطات المؤتمرات الوطنية مناسبة للصراع والتفتت والانقسام حتى غذا تاريخ الحياة الحزبية والنقابية والجمعوية تاريخا يحكمه قانون الانقسامية لم يعد هناك من يتصور انه من الممكن ان نأمل في ممارسة ديمقراطية حقيقة ونزاهة في العمليات الانتخابية، وأنه لا يمكن أن نتصور مؤتمرات دون كولسات وتقاطبات ومؤامرات وحسابات . ولذلك صدرت تحاليل وتعليقات مثيرة للشفقة من قبيل وجود فيتو على ترشيح أو رئاسة الدكتور احمد الريسوني للحركة . وكتب آخرون قدموا انفسهم في مرتبة المنظرين السياسين، أن انتخاب الشيخي بدل الريسوني او مولاي عمر بن حماد يدل على استحكام الرقابة الذاتية لدى النخبة السياسية التي خلفت التدخل المباشر للمخزن. وقال آخرون إن رئيس الحكومة فرض رجلا من رجالاته لرئاسة الحركة ضامنا بذلك مستقبله السياسي وولاء الذرع الدعوي لحزب العدالة والتنمية . والبعض تحدث عن المفاجأة التي جعلت الشيخي الذي جاء متأخرا في لائحة المرشحين الستة للجمع العام ليتقدم في التصويت من أجل اختيار الرئيس متقدما على بقية المرشحين ليبارى على رئاسة الحركة مع الريسوني في دور ثان على رئاسة الحركة ليتقدم على الريسوني ويعلن رئيساً لحركة التوحيد والإصلاح. من الطبيعى لمن لم يلبسوا نظارات الثقافة الحزبية والتنظيمية السائدة المشار اليها أعلاه ان لا يكونوا قادرين على فهم الثقافة التنظيمية السائدة لدى حركة التوحيد والإصلاح والآليات القانونية التي تؤطرها في مجال اتخاذ القرار عامة وانتخاب المسؤولين، والتي انتقلت في كثير من جوانبها الى عدد من المؤسسات الأخرى التي يشتغل من خلالها عدد كبير من أعضاء الحركة في الحزب أو النقابة أو في عدد من مجالات العمل الاجتماعي والمدني. هي ثقافة تعتمد مبدأ الترشيح من قبل المؤتمرين لا مبدأ الترشح وتضع لذلك آليات مضبوطة حيث يتم ترشيح لائحة أولية عن طريق التصويت السري، وهي مرحلة أولى تحصر دائرة الاختيار بين عدد من المرشحين (خمسة في حالة الحركة). وهي ثقافة تعتمد مبدا التداول وفق مسطرة قانونية تحصر التداول في بسط المواصفات التي تؤهل مرشحا دون غيره والتي تمنع الآخر في نظر المتدخل وتبين العوامل التي تدفع المتدخل الى ترجيح هذا دون ذاك . وهو تداول يخضع لضوابط أخلاقية إذ من الممنوع فيها ان يتناول بعض الجوانب الشخصية التي لا علاقة لها بالمسؤولية التي يجري التداول من اجل اختيار الأرجح لها. وهو تداول يهدف الى تنوير المؤتمرين ووضع اكبر قدر من المعطيات حول المرشحين وحول المرحلة وتحدياتها والأنسب اليها وبيان بعض الموانع التي قد لا يكون الجمع العام او المؤتمر على علم بها . وهو تداول يقدم فيها بعض المرشحين ما يرون من موانع تحول دون تحمل المسؤولية المقترحة وقد يرجحون فيها غيرهم ويدعون المؤتمرين الى صرف النظر عن التصويت لهم. التداول الذي اهتدت اليه حركة التوحيد والإصلاح، إبداع فريد في مجال الممارسة الديمقراطية وترشيد الاختيار وتحريره من الارتهان للكولسات والمحاور والاستقطابات التنظيمية المسبقة التي تواجه بها المؤتمرات وتجعل في نهاية المطاف عمليات التصويت والانتخاب مجرد انتخابات صورية وتزكية لقرارات وترتيبات مسبقة جاهزة . التداول الذي اهتدت اليه حركة التوحيد والاصلاح يجعل من الصعب لأي كان من داخل الحركة او خارجها التكهن بنتائج العمليات الانتخابية للمسؤولين عن الحركة، لأنها في الحقيقة انتخابات ديمقراطية حقيقة ، ما فتئت حركة التوحيد والإصلاح تقدم فيها الدرس تلو الاخر . في سنة 1980 انتخب محمد يتيم رئيسا للجماعة الاسلامية اعتمادا على نفس النهج الذي وضعت معالمه الأولى في اول مؤتمر سري ببوسكورة حين قرر أغلب مناضلي الشبيبة الاسلامية وضح حد لعلاقتهم مع قيادتها السابقة. وفي سنة 1986 تم انتخاب الأستاذ عبد الاله بن كيران بناء على نفس النهج. وفي سنة 1994 أعيد انتخاب محمد يتيم رئيساً لحركة الإصلاح والتجديد في الوقت الذي لم يكن احد يتوقع ذلك وكان اغلب الأعضاء يتوقعون إعادة انتخاب عبد الإله ابن كيران او انتخاب الدكتور سعد الدين العثماني، وكتبت جريدة الصحوة انذاك التي كانت قريبة من رابطة المستقبل الاسلامية وكان يديرها الاستاذ مصطفي الرميد عن الدرس الحاتمي نسبة الى "حاتم" وهو الرمز المختصر لحركة الاصلاح والتجديد. وبعدها كتبت جريدة الاصلاح عن الدرس التوحيدي حين تم انتخاب الدكتور احمد الريسوني رئيساً للحركة على الرغم من ان منطق الكثرة العددية أو التعصب للتنظيم السابق لو كان هو السائد كان يفترض إفراز رئيس للحركة من الفصيل التنظيمي المذكور . وتواصل الدرس المذكور حين تم انتخاب المهندس محمد الحمداوي الذي استمر على رأس الحركة لمدة إحدى عشرة سنة متوالية ويرأس مكتبها التنفيذي، وفيه ثلاثة رؤساء سابقين للحركة منهم محمد يتيم وفي حجم الدكتور الريسوني وعبدالإله بن كيران . وخلال المؤتمر السادس لحزب العدالة والتنمية وامتدادا لنفس الثقافة وأمام مفاجأة الجميع تم انتخاب الاستاذ عبد الاله بن كيران أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية بعد عملية تداول وتصويت سري واحب هنا ان استحضر واقعة ترتبط بالمؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية خلال شهر يوليوز من سنة 2012 كانت ولاية الاستاذ عبد الاله بن كيران قد انتهت وحل استحقاق تنظيم المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية . لم يكن قد مر على تنصيب الحكومة الجديدة التي جاءت نتيجة لانتخابات 25 نونبر 2011 سوى بضعة أشهر وعلى المصادقة على قانون المالية سوى ثلاثة اشهر تزيد او تنقص، تساءل اعضاء الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية هل من الحكمة بعد الخروج من سنة عرفت أحداثا كبري في المغرب ، بدءا بالحراك الشبابي والإصلاح الدستوري والانتخابات السابقة لأوانها التي نقلت نتائجها الحزب من المعارضة الى قيادة الحكومة :هل من الحكمة تنظيم المؤتمر في وقته المحدد ام انها على العكس من ذلك تقتضي تأجيله خاصة وان الحزب اصبح في وضع اخر وان اي تحول في وضعه التنظيمي او تغيير في قيادته قد تكون له تداعيات ليس فقط على الوضع الداخلي في مرجلة يعيش فيها استحقاقات الانتقال من حزب في المعارضة الى حزب يقود تجربة جديدة في التدبير في اطار دستور جديد وفي ظل تغيرات كبرى عرفتها المنطقة في إطار ما عرف بالربيع الديمقراطي، ولكن أيضاً في اطار تحدي الوقت وضيق المدة الزمنية المتبقية. لم تتردد الأمانة العامة في ترجيح قضية الوفاء باحترام تنظيم الاستحقاقات التنظيمية في وقتها باعتبارها احد المؤشرات الدالة في الثقافة والممارسة الديمقراطيين. حل موعد المؤتمر وقبله بأسبوع كانت حركة النهضة في تونس قد عقدت مؤتمرها الذي تشرفت بتمثيل الحزب فيه. وخلال عودتي في تونس كان في رفقتي عدد من ضيوف مؤتمر الحزب الذين كانوا أيضاً ضيوفا على النهضة ومن بينهم المفكر الفلسطيني الدكتور منير شفيق . سألني يريد أن يطمئن على نتائج المؤتمر: ماذا عن الترتيبات التي قمتم بها من أجل تفادي مفاجات تربك مسارات الحزب والحكومة . اجبيته ببساطة: إننا في الحزب وقبله في الحركة لا نعتمد أسلوب الترتيب ونعتمد الانتخاب الديمقراطي القائم على أساس ترشيح المؤتمرين وأسلوب التداول قبل التصويت، وهو أسلوب نضع كامل ثقتنا فيه، وأنه خلال تجربتنا الطويلة لم ينتج الا أحسن الأختيارات وأكثرها ضمانا للتماسك الداخلي وتسليمها بشرعية القيادة المنتخبة! هو نفس الأمر يتكرر من جديد في حركة التوحيد والإصلاح فخلال المؤتمر الأخير لحركة التوحيد والإصلاح وأمام مفاجأة الجميع تم انتخاب عبد الرحيم الشيخي رئيساً للحركة على الرغم من ان الترشيح الأولي كان قد وضعه في آخر لائحة المرشحين الخمسة اي بعد كل من الريسوني ومولاي عمر بن حماد وأوس الرمال وسعد الدين العثماني حيث عرفت المرحلة الأولى ترشيح خمسة أسماء وهم بالترتيب أحمد الريسوني، بعدد أصوات بلغ مجموع 340 صوت، ومولاي عمر بن حماد بمجموع أصوات 322، ثم أوس الرمال بمجموع 209 صوت، يليه العثماني سعد الدين ب 166 صوتا، وعبد الرحيم ب 162 صوتا. ثم انه بعد عملية تداول شاقة دامت حوالي أربع ساعات وبسط فيها الريسوني اعتذاره ورحج مولاي عمر بن حماد افرز التصويت تقدم عبد الرحيم الشيخي على كل المرشحين دون حصول احد المرشحين الخمسة على الأغلبية المطلقة لاعضاء الجمع ليحتكم الجمع الى جولة ثانية تم فيها الترشيح بين المرشحين الأول والثاني أي بين أحمد الريسوني وعبد الرحيم الشيخي ، بناء على ما استقر لدى اعضاء الجمع من ترجيح بعد عملية التداول . تلك هي أسرار الدرس التوحيدي المتواصل .. وهو في الجوهر ديمقراطي لا يحتكم فقط الى شكليات وآليات الديمقراطية القائمة على التصويت والأغلبية بل مطعمة بقاعدة اخلاقية قوامها الصراع والتنافس على المواقع وما يرتبط بذلك من كولسات وترتيبات بل على أساس التداول الذي يرشد الاختيارات .. ويضمن وهذا هو الأهم القبول بنتائج العملية الانتخابية والتسليم بشرعية القيادة المنتخبة ويعزز الثقة في المنظمة ... انها أسرار الدرس التوحيدي المتواصل الذي ينبغي ان يعض عليه مناضلو التوحيد والإصلاح بالنواجد، وينبغي للخصوم الحركة وحزب العدالة والتنمية - الذين يقولون تارة انها تتحكم بالرموت كونترول في الحزب، وهاهم يقولون: إن بن كيران هو الذي تحكم في جمعها العام الأخير بالرموت كنترول - ينبغي عليهم أن ينافسوهما فيه، والا فكل مؤتمر من مؤتمراتكم مقسمون مشرذمون، وكل مؤتمر من مؤتمرات حركة التوحيد والإصلاح أو حزب العدالة والتنمية، وانتم لأناملكم من الغيظ عاضون .. فالله الله في أصابعكم .. والله الله في قلوبكم !!