تحصل الحروب دائما من اجل تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو دينية،... و تكون معايير النصر أو الهزيمة فيها هي مقدار تحقق تلك الغايات و الأهداف التي سطرت ،و ليس فقط حجم الخسائر العسكرية و البشرية و المدنية، فهناك هزائم و انتصارات موقعية أي ترتبط بموقع محدد فقط كحالة غزة مثلا ،و أخرى تكون وطنية أي تشمل الوطن أو الأمة بأسرها كما حدث في أفغانستان و العراق. و في الحرب الأخيرة التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة لم يكن احد يتوقع ما ستصل إليه الأمور بانقلاب الموازين على الكيان الصهيوني بترسانته العسكرية المدعومة من الغرب، بعد أن كان يظن انه سيكسب الحرب في بضعة أيام، فإذا بها المفاجأة تخرج من أفواه الصهاينة أنفسهم؛ فقد اعترف وزير السياحة بحكومة الكيان الصهيوني بخسارة الحرب العسكرية ضد غزة قائلا: "إن العالم كله صار يعرف حقيقة إن المقاومة الفلسطينية قد انتصرت، علينا أن نعترف، لقد خسرنا الحرب"، و قال عوزي لانداو الوزير اليميني المتطرف عبر القناة العاشرة الصهيونية: إن "الأنفاق لم تكن هدفنا الرئيسي (كما يحاول أن يروج إعلاميون و عسكريون صهاينة) بل كان وقف إطلاق الصواريخ ،هذا كان الهدف الحقيقي و المعلن" و استأنف لاندو:" كانت الصواريخ هي هدفنا الذي لم يتحقق، لقد خسرنا معركة مهمة و إستراتيجية" و ختم: "لم نحقق الأهداف التي وضعناها للحملة، لأننا عالجنا مشكلة ثانوية و فرعية هي الأنفاق، الخطر الحقيقي و الأساسي بدرجة اكبر هو خطر الصواريخ، و قيادة(حماس) التي لم تتضرر؛ فلا يوجد أي قيد يمنع قيادة(حماس) في المستقبل من حفر أنفاق جديدة و التزود بالسلاح، و في الجولة القادمة، من شاننا أن نواجه صواريخ تحمل رؤوس تفجير اكبر و أقوى، و أسلحة كيماوية و صواريخ مضادة للطائرات" هذه هي نتيجة الحرب الدائرة الآن بين الاحتلال الصهيوني و قطاع غزة بمقاومته الباسلة التي لا تملك من السلاح ما يملكه الصهاينة، سوى جرعة زائدة من الإيمان بالقضية، و الإرادة و العزم ،و فوق ذلك كله حسن التوكل على الله و الالتزام بشرعه ؛بحيث تجد أخلاقيات عالية في الجانب الحربي أبانت عنه المقاومة؛ فلا تجد أطفالا قتلى أو جرحى و لا نساء و لا رجالا مدنيين في الجانب الصهيوني، بل العكس من ذلك تجد أن الخسائر البشرية اقتصرت على الضباط و الجند المشاركين في غزو قطاع غزة، فلم يهدموا المدارس و المستشفيات و لا دور العبادة و لا مؤسسات، بخلاف الاحتلال الصهيوني الذي لا يعرف أخلاقا في الحروب و إنما حقد و كره لكل من اشرأبت نفسه لنيل حقوقه و للعيش بكرامة بحيث تسببت آلة القتل الصهيونية في سقوط 1894 شهيدا فلسطينيا، فيما أصيب 9817 آخرون ،فضلا عن تدمير و تضرر 38080 منزلا سكنيا ،و مقرات حكومية و مواقع عسكرية، و تدمير 60 مسجدا بشكل كلي ،إضافة إلى تضرر 150 مسجدا بشكل جزئي، و قصف 11 مقبرة ،و 3 لجان زكاة، و مدرسة شرعية للبنين حسب أرقام رسمية فلسطينية. و رغم كل هذا الإرهاب نجد عزما قويا لأهل غزة قل نظيره و ذلك لإيمانهم القوي بعدالة قضيتهم التي من اجلها تهون النفوس؛ فمواطنين من قلب غزة يصرحون:" إحنا فش سلاح بأيدينا..بس منقاوم الاحتلال بأولادنا..و كل أولادنا فدى فلسطين و فدى الوطن كله" و يضيفون:" كل ما يقتلوا واحد منا رح نجيب عشرة غيرو..و ولادنا شوكة بحلق إسرائيل ليتم زوالها إن شاء الله"، لذلك فلا عجب إذا وجدنا أن عدد المواليد الذين تم تسجيلهم في غزة خلال هذه الحرب فاق 4500 مولود ،و هو بلا شك ضعف الشهداء الذين ارتقوا في هذه الحرب. و غزة الآن فضحت أقواما كانوا يتخذون القضية الفلسطينية مجرد شعارات و رموزا، و كشفت أوراقا تسترت تحت أنقاض القضية الفلسطينية، و أسقطت أقنعة لبست مشوح القضية الفلسطينية لخداع من تحت يده ،و هذه من منح هذه المحنة, إذ لم تعد ورقة الاتفاقيات الدولية و مواثيق حقوق الإنسان ،و التي تنادي بإحلال السلام و نبذ العنف و فرض عقوبات على الظالم المحتل، لم يعد يصدق بهذا إلا من في عينه قذى أو في قلبه دخن، و قد بينت بعض ذلك في مقالة سابقة بعنوان: "غزة و لعبة التجاذبات الدولية". فقد فضحت و كشفت غزة عن ظهور تيار جديد و دخيل على العروبة و الإسلام؛ ربما كان قبل تاريخ 30 من يونيو لسنة 2013 لكن ذلك تأكد جليا بعد تاريخ 3 من يوليوز 2013 ،طبعا الكل يعرف الحدث الذي جرى في هذا التاريخ لكن من هؤلاء القوم الجدد؟. إنهم "الصهاينة العرب" الذين يتنوعون بين مشاهير الإعلاميين، و منهم بعض رؤساء تحرير الصحف العربية، و بعض مالكي القنوات الفضائية ،إضافة لعدد من ابرز الإعلاميين المصريين، وصولا لنشطاء خليجيين و عرب و حتى فلسطينيين، يساندون الكيان الصهيوني في عدوانه على قطاع غزة، و دعوة الاحتلال و التنسيق معه لإبادة حركة المقاومة الإسلامية حماس ،و قد برزت في ذلك كتابات و تصريحات يصفون فيها ما تفعله قوات الاحتلال في قطاع غزة بأنه عملية تنظيف و تجفيف منابع الإرهاب ،و قد دعم الكيان الصهيوني إخوانهم هؤلاء بنشر كتاباتهم و شكرهم و الاستشهاد بكلامهم. فضحت و كشفت غزة رضوخ الأنظمة العربية للكيان الصهيوني؛ إذ أن التباين الذي شاهدناه بين الأنظمة و الشعوب الإسلامية و العربية و بعض أحرار العالم، و التي ظلت هي الحاضنة و الداعمة دوما للقضية الفلسطينية على مر الأزمان؛ فخروجها إلى الشوارع، و هتافها التنديدي بالمجازر، و مساندتها للمقاومة، كشفت حقيقة هذه الأنظمة، إذ أن هذه المظاهرات القوية دائما ما كانت ترعب الكيان الصهيوني، يصرح بذلك المفكر الصهيوني ميرون بنفنستي فيقول: "بعدما شاهدت المتظاهرين العرب في التلفاز، استطيع أن أقول انه يجب أن نتخلص من وهم الاحتفاظ بالقدس، لان الجماهير الإسلامية لن تدع هذا يمر"، و يقول الشاعر الصهيوني حايم غوري:" حينما شاهدت مظاهرة في المغرب تضم مليون مواطن ليعلنوا معاداتهم لنا، عرفت مؤكدا أن سلاما لن يتحقق، إذا هتف هؤلاء فقط ضدنا و حاولنا فصل القضية عن بعدها الديني، لكن خاب أملنا لان الدين هو الذي يوحد كل هؤلاء". فضحت و كشفت غزة عن التطبيع و العمالة التي أبداها البعض المحسوبين عن الامازيغ بحجج جد واهية: من قبل "تازة قبل غزة" و "غرداية قبل غزة"، و كأن التضامن مع غزة يمنع من التضامن مع بقية المظلومين، فالامازيغ الأحرار كانوا دائما في علاقة وطيدة بينهم و بين فلسطين، فهذه كتب الرحلات و التراجم تجلي الصورة الناصعة لما كانت عليه فلسطين من تعظيم و توقير، فالرابطة العقدية التي جمعتهم بأهل فلسطين اكبر من أن تنالها أيدي الصهيوامازيغ التي ظهرت من بعضهم في الآونة الأخيرة. فضحت و كشفت غزة حقيقة خطاب الممانعة الذي يسوقه الشيعة للعالم الإسلامي؛ فلطالما سمعنا الخطب الرنانة المعتادة من الشيعة على أنهم يمتلكون الصواريخ القادرة على دك دولة الكيان الصهيوني في عقر داره، و لطالما سمعنا الكثير من الشعارات التي تحاكي نصرة فلسطين وشعبها وقضيتها ،لكننا على أرض الواقع لا نجد إلا جعجعة ولا نرى طحنا ولو وصل الأمر إلى هذا الحد لهان الخطب، لكن نرى الشيعة يقتلون الفلسطينيين ويعتقلونهم في لبنان وسوريا والعراق، لقد كذب الشيعة بنصرتهم لقضية فلسطين و بان عوارهم باستخدامها فلسطين ورقة لتمرير مشاريعهم المتمثل في السيطرة على العالم الإسلامي و تشييعه، فهذه المحنة التي تمر بها غزة هي الفرصة الذهبية للمحور الشيعي في إثبات مصداقيته و تجريب صواريخه لنصرة القضية الفلسطينية كما يدعي، و لكنهم لم و لن يفعلوا لان سيفهم سل على أهل السنة؛ فهذا هو دينهم و ديدنهم و تاريخهم و حاضرهم ف:" لن يحرر فلسطين من يشتم فاتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه" كما قال رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني. كشفت غزة عن مدرسة في الثبات و التوكل على الله؛ إذ إيمانهم القوي بعدالة قضيتهم و تعلق الأفئدة بخالقها؛ كما قال إسماعيل هنية :"ما عدنا نحتاج معبر رفح لكي يفتحوه لنا، لقد فتح الله لنا معراجا إلى السماء، إلى جناته و نعيمه، جوار الله خير من جوار الظلمة"، فلا عجب إذن أن نرى هذا الثبات و هذا الجهاد بأخلاقياته العالية ،و بطولة الرجال القوية التي زعزعت و أقضت مضاجع الصهاينة، كالطلعة البهية التي يبديها أبو عبيدة الناطق الرسمي لكتائب القسام، فضلا عن المفاجآت العسكرية و الكرامات الربانية التي أتحفت المقاومة. إن هذا العدوان الغاشم على غزة، و تلك المقاومة الباسلة حملت في طياتها أمالا و منحا ،دروسا و عبرا، مسلكا و طريقا للسائرين على درب الهدى و اليقين، كما كانت نقمة و لعنة على الصهاينة و من ناصرهم ،و صخرة تكسرت عليها رؤوسا و تمعرت وجوها ،و كشفت أستارا و فضحت أقواما.. X