إنها ساعة الحقيقة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، وهذه الحقيقة تظهر اليوم ساطعة جلية في القدس وهي عنوان "المشروع الوطني" ل"حل الدولتين" الذي تبناه قادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يعد في وسع أي قيادة فلسطينية التهرب من مواجة هذه الحقيقة، أو التنصل من مسؤولية تكرار أخطاء ما قبل عام 1948 التي قادت إلى النكبة. لقد بنت منظمة التحرير استراتيجيتها الراهنة على أساس أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تريد سلاما مبنيا على أساس الاعتراف الفلسطيني والعربي بها وأن المجتمع الدولي يدعم سلاما يقوم على هذا الأساس، غير أن كل الوقائع والدلائل منذ تبنت المنظمة هذه الاستراتيجية أثبتت، وتثبت اليوم أكثر من أي وقت مضى، خطأ هذه الفرضية، لتثبت أن استراتيجية المنظمة قد بنيت على فرضية خاطئة قادت إلى الخطيئة السياسية التي تجد نفسها متورطة فيها اليوم. في الرابع من الشهر الجاري كتب جدعون ليفي في هآرتس العبرية: "إسرائيل لا تريد السلام ... وفي الحقيقة، يمكن القول إن إسرائيل لم تكن تريد السلام أبدا، أي سلاما يقوم على أساس تسوية عادلة لكلا الطرفين، ... فالإسرائيليون يريدون السلام، وليس العدل، وبالتأكيد هم لا يريدون أي شيء على أساس القيم العالمية ... لا بل إن إسرائيل قد تحركت بعيدا حتى عن الطموح لصنع السلام"! إن الدرس التاريخي الفلسطيني الأهم من نكبة عام 1948 هو أن اعتماد القيادة الفلسطينية آنذاك على المجتمع الدولي فقط وليس على المقاومة الوطنية لمنع وقوع النكبة كان هو السبب الرئيسي في وقوعها، وتكاد القيادة الفلسطينية اليوم تكرر الخطأ التاريخي ذاته، وهو ما ينذر بنكبة في الضفة الغربية تبدو بالمقارنة مع النكبة الأم مصغرة لكن نتائجها سوف تكون أكبر وأعظم لأنها إن وقعت سوف تكتب الفصل الأخير في تصفية القضية الفلسطينية. قبل النكبة عام 1948، كان يوجد جيش احتلال في فلسطين لكنه كان بريطانيا، ومستعمرات استيطانية يهودية يحميها، ومستوطنون غزاة صهاينة منظمون في عصابات إرهابية ومسلحون حتى الأسنان يمثلون أقلية، وشعب عربي أعزل من السلاح يمثل أكثرية وافقت قيادته على تجريم أي مقاومة مسلحة له اعتمادا على وعود لها من جامعة الدول العربية مبنية على "الثقة" في ما وصفته الجامعة في حينه ب"حسن نوايا" الدولة البريطانية "الصديقة" والمجتمع الدولي الذي كانت تقوده امبراطوريتها التي لم تكن الشمس تغيب عنها. واليوم، لم تتغيرعناصر تلك المعادلة التي قادت إلى النكبة الفلسطينية والهزيمة العربية في فلسطين، بعد أن تحولت العصابات الصهيونية الإرهابية إلى جيش نظامي ودولة، باستثناء أن "جيش الاحتلال" الذي كان بريطانيا قد أصبح اليوم صهيونيا وباستثناء أن الدولة العظمى "الصديقة" للجامعة العربية كانت بريطانية التزمت ب"تقسيم" فلسطين بين غزاتها وبين مواطنيها وأصبحت اليوم أميركية متورطة حتى النخاع في "تقسيم" الضفة الغربية بين مستعمريها وبين مواطنيها. وقبل النكبة ارتكبت القيادة الفلسطينية خطيئة القبول بالدولة البريطانية "العظمى" آنذاك التي كانت تستعمر فلسطين باسم "الانتداب" خصما وحكما في ذات الوقت، تماما كما تراهن القيادة الحالية اليوم على أن يكون الخصم الأميركي حكما في الصراع. ومثلما كانت القيادة الفلسطينية آنذاك "تنسق" أمنيا وسياسيا مع جيش الاحتلال البريطاني بحجة حماية شعبها من العصابات الصهيونية الإرهابية "تنسق" القيادة الحالية أمنيا وسياسيا مع جيش الاحتلال الصهيوني بالحجة ذاتها. ومثلما كان جيش الاحتلال البريطاني يهدد القيادة الفلسطينية آنذاك بعجزه عن "ضبط" انفلات عصابات إرهاب المستوطنين الصهيونية إذا لم "تنسق" معه أمنيا وسياسيا لمنع ما كانت تدعي أنه "إرهاب" فلسطيني، فإن جيش الاحتلال الصهيوني اليوم يهددها بعجزه عن "ضبط" انفلات عصابات المستوطنين الإرهابية في الضفة الغربية إذا لم تلتزم بتنسيقها الأمني والسياسي معه لمنع أي مقاومة فلسطينية للاحتلال والاستيطان. إن تسارع وتصاعد عدوان المستوطنين في مستعمرات الضفة الغربية على مواطنيها مؤخرا، وازدياد نشاط عصابات "تدفيع الثمن" اليهودية الذين رفعوا خلال الأسبوع الماضي شعار "الانتقام بالدم"، لا يمكن أن يحدث من دون ضوء أخضر من دولة الاحتلال وحكومتها وجيشها، ما يذكر بتواطؤ جيش الاحتلال البريطاني مع عصابات الصهاينة الإرهابية قبل النكبة. إن سيناريو "الحرب الأهلية" بين الأكثرية من عرب فلسطين وبين الأقلية من مستوطنيها الصهاينة قبل النكبة كان الحجة التي حملهاالاحتلال البريطاني إلى الأممالمتحدة كذريعة مهدت لقرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947 كمدخل أممي لوفاء بريطانيا بوعد بلفور. وتبدو دولة الاحتلال الإسرائيلي اليوم كمن يمهد لحرب تسوقها في العالم ك"حرب أهلية" بين الأكثرية العربية في الضفة الغربية وبين الأقلية اليهودية من مستوطنيها في المستعمرات غير الشرعية التي بنتها فيها بعد احتلالها عام 1967 تمهيدا لتقسيم الضفة بين أهلها العرب وبين غزاتها الصهاينة. منذ انطلقت ما تسمى "عملية السلام" مع دولة الاحتلال على أساس منح حكم ذاتي فلسطيني على "السكان" لا على "الأرض" شنت دولة الاحتلال ثلاثة حروب كبرى على هؤلاء "السكان" في الضفة الغربية وقطاع غزة، وها هي اليوم تستمر في اجتياحها للضفة للمرة الثانية منذ عام 2002 بينما يهدد قادتها بحرب ثالثة على المقاومة في القطاع المحاصر ويحركون تعزيزات عسكرية حوله ويخيرون السلطة الفلسطينية في الضفة بين الانضمام إليهم في هذه الحرب، مثلما "نسقت" معهم في اجتياحها الحالي المتواصل للقدس والضفة ... أو الانهيار. وفي هذه الأثناء، تراوح سلطة الحكم الذاتي مكانها داخل دائرة المفاوضات المغلقة فلا هي تستطيع استئنافها ولا هي قادرة على أن تتطور إلى دولة من دونها بينما تظهر عجزا فاضحا عن حماية شعبها في الحد الأدنى ناهيك عن حماية أرضه، فتكاد تتحول إلى أداة في يد الاحتلال، وهو ما لم تنحدر إليه القيادة الفلسطينية قبل النكبة. وعندما يقول الرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤخرا إن "إسرائيل الآن سحبت من السلطة كل السلطة" ف"هي تريد سلطة بلا سلطة"، بينما بدأت لجان الحماية الشعبية تنشأ في القرى والمخيمات والمدن بحثا عن حماية ذاتية تعجز "السلطة الفلسطينية" عن توفيرها، يكون من الواضح أن الاحتلال لا يترك لها إلا الاختيار بين "التعاون" معه أو البقاء متفرجة حد الانهيار الذاتي أو الانضمام إلى شعبها في مقاومته، لكنها ما زالت تبدو عاجزة حتى عن الاختيار. في الثاني من يوليو الجاري كتب مدير اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل جف هالبر قائلا إنه "من الصعب رؤية كيف" يمكن للسلطة الفلسطينية أن تبقى، وفي حال استمرار الوضع الراهن سوف "تفرض إسرائيل عليها دور المتعاون رسميا" وهو وضع "مهين" سوف يقود إلى "انهيارها"، كما انهارت القيادة الفلسطينية بعد النكبة، ومن دون وجود سلطة فلسطينية "تطيل عمر وهم" وجود "طرفين" يتفاوضان، "سوف تضم إسرائيل من جانب واحد الكتل الاستيطانية الرئيسية"، أي "نصف الضفة الغربية"، لكنها "سوف تضطر في نهاية المطاف أيضا إلى إعادة احتلال المدن الفلسطينيةوغزة" مثلما احتلت وضمت دولة الاحتلال الأراضي المخصصة للدولة العربية بموجب قرار التقسيم. وكان هالبر قد خلص في مقاله إلى أن "حل الدولتين قد دفن إلى الأبد تحت كتل الاستيطان"، وإن دولة الاحتلال الإسرائيلي تنفي دائما أنها قوة قائمة بالاحتلال وإن وجود قواتها في الضفة الغربية هو مجرد "إدارة" لمناطق "متنازع عليها"، وإنها "لم تعترف أبدا بوجود الشعب الفلسطيني أو بحقوقه الوطنية في تقرير المصير"، ولم تعترف "حتى في أكثر أيام (اتفاقيات) أوسلو إشراقا" بمنظمة التحرير الفلسطينية كشريك في المفاوضات، و"لم تعلن رسميا أبدا قبولها بحل الدولتين" قبولا يقتضي انسحابها تماما وراء "الخط الأخضر". إن استمرار قيادة منظمة التحرير ومجلسها الوطني في مناشدة "المجتمع الدولي" التدخل لحماية شعبها وفي المطالبة ب"حماية دولية" له هو استمرار للنفخ في قربة مثقوبة. ومن الواضح أن الشعب الفلسطيني قد اختار طريقه، فإما أن تنضم قيادته إليه أو تخلي الطريق لقيادة تنضم إليه في مقاومة الاحتلال. XX