بعد نهاية نظام معمر القدافي سنة 2011، شهدت ليبيا انزلاقا دراماتيكيا في اتجاه عدم الاستقرار السياسي. الغرب من جانبه كان يروج بأن الديمقراطية والاختيار الحر للشعب الليبي لممارسة حقوقه السياسية بعد أزيد من 40 سنة من الحكم الأتوقراطي المغرق في الشخصنة وارتباط الجماهيرية بشخص الحاكم، سوف تسهل عملية الانتقال الديمقراطي بسلاسة وتتمكن المعارضة وقيادات الثورة من ممارسة الحكم على أساس تشاركي والتمكن من إدارة دوالب الدولة والمؤسسات بعد انتهاء مرحلة التحرير. خلافا لهذا التصور، شهدت ليبيا تدهورا أمنيا خطيرا، خلف المزيد من الحسرة وعدم التفاؤل بخصوص مستقبل الاستقرار السياسي في هدا البلد، وخاصة أن سيناريو القضاء على النظام السابق تم بالاستعانة بحلف شمال الأطلسي بناء على تفويض من مجلس الأمن الدولي بمقتضى القرار 1973. تدهور الأوضاع في ليبيا يعطى الانطباع أن الأحداث التي ميزت الثلاث سنوات الأخيرة، توضح فشل المقاربة الغربية لتحقيق الاستقرار ودخول البلاد في ما يشبه الحرب الأهلية في غياب سلطة مركزية فاعلة وناجعة تستطيع حماية ليبيا من السقوط في فخ الفوضى. وبالتالي تحول ليبيا وبلدان الساحل الإفريقى إلى مجرد بلدان ممزقة وهشة تتنازعها الانتماءات الطائفية والدينية والثورية، لتكون ملجأ أمنا للقاعدة والحركات الإسلامية المتطرفة، وتلك القادمة من مالي هربا من القوات الفرنسية. المقاربة الغربية تروم بالأساس الدفاع عن مصالحها الحيوية في منطقة غنية بالنفط والغاز والمواد الطبيعية، ولهذا فإن حل معادلة الأمن تبدو ضرورية ومستعجلة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، والحفاظ بالتالي على الامتيازات والمصالح الغربية. فالباحث الأمريكي فريد زكريا (صحفي بمجلة نيوزويك) في كتابه" العالم ما بعد أمريكا" يمجد الإجراءات التي اتخذتها الولاياتالمتحدة في نشر الديمقراطية الليبرالية في جميع أنحاء العالم، ويوضح بأن بلدانا أخرى تتنافس الآن مع الولاياتالمتحدة من حيث القوة الاقتصادية والصناعية والثقافية. ففي حين أن الولاياتالمتحدة لا تزال رائدة من حيث القوة السياسية والعسكرية، فإن بلدانا أخرى مثل الصين، الهند والبرازيل أصبحوا لاعبين عالميين في العديد من المجالات، وتحول الاهتمام أكثر إلى البحث عن المواد الأولية وفرص جديدة للاستثمار وخاصة في مناطق غنية بالمواد الخام كالماس والذهب بإفريقيا. وبهذا الخصوص تحاول الصين مثلا الحصول على فرص اقتصادية ضخمة رغم المخاطر الأمنية في كل من السودان وزيمبابوي، كما قامت بشراء الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية والغابوية في وسط وغرب إفريقيا وإنتاج السلع الرخيصة وبيعها في الأسواق الاستهلاكية الإفريقية، مما يهدد الأمن الغدائي في هذه المناطق ويجعل منها مصدرا لتنمية البلدان الكبرى. وبالمقابل، تحاول القوى العظمى تكثيف تواجدها للسيطرة على هذا المجال الجيوسياسي لقطع الطريق على الصين التي تسعى لتأمين مصادرها النفطية مستقبلا من خلال الحفاظ على تمركزها جغرافيا واستراتيجيا بالمنطقة وخلق وحدات إنتاج صناعية هناك. تتعدد المخاطر التي تهدد الساحل الأفريقي ومنطقة المغرب العربي، حيث أن انفجار النزاعات بالمنطقة يؤدي إلى زعزعة الاستقرار بكامل الفضاء الساحلي وتضيف الحرب في ليبيا إلى هدا المشهد المزيد من القتامة ومضاعفة هذه المخاطر، كما يشكل هذا الفضاء ملاذا آمنا نسبيا لشبكة الجماعات المسلحة الدولية التي تجد كل التسهيلات للتدريب العسكري وانتداب عناصر مقاتلة والقيام باغتيالات وعمليات تفجيرية وانتحارية واختطافات بالجملة وإنشاء معسكرات للتدريب. من ناحية أخرى، تعتبر المنطقة هشة أمنيا تسهل فيها المعاملات والأنشطة الغير المشروعة لتجارة الأسلحة و المخدرات والسيارات والسجائر والمواد الأولية والاتجار بالبشر ودفن المخلفات النووية وتكوين جماعات لترويج الأفكار الإسلامية المتشددة ومنطلقا للهجرة الغير الشرعية وغسل الأموال. اشكالية انعدام الأمن في ليبيا، ينعكس بشكل سلبي على المسار الديمقراطي ويعطل بشكل مأساوي مرحلة بناء المؤسسات السياسية و الإدارية، ويساهم في ارتفاع منسوب الجريمة ونشاط الحركات المتطرفة، وبات المسؤولون الليبيون والدبلوماسيون الأجانب مهددون بالاعتقال والاختطاف كما هو الشأن لواقعة اختطاف رئيس الوزراء علي زيدان سنة 2013. يعزى انعدام الأمن والاستقرار إلى مجموعة من العوامل أبرزها: الفشل الذريع في نزع الأسلحة، وشل حركة المليشيات العسكرية التي نشطت بعد نهاية مرحلة الحرب في ليبيا، ورغم إجماع الجهات الغربية والقيادات الليبية على نزع الأسلحة، ظلت البلاد تحت سيطرة الجماعات المسلحة من مختلف الانتماءات القبلية التي تعتبر عصب الدولة الليبية والحكومة المنتخبة تحت تهديد العنف وتدخل الجماعات المسلحة، وظل مسار المسلسل الانتخابي والعمل بالتعددية السياسية معطلا. . إن الجهود المبذولة لبناء المؤسسات في ليبيا ما زالت تراوح مكانها وتوصف بالضعيفة سياسيا وإداريا، بداية بالتأخر في إصدار دستور ديمقراطي متوافق بشأنه واحترام الأجندة التي وضعت لإخراجه قبل نهاية الحرب، إذ لم تشرع لجنة إعداد الدستور إلا بعد سنتين من مقتل القدافي. وتزامن ذلك مع قيام جماعات مسلحة بالسيطرة على الشرق الليبي وآبار النفط وهددت بإنشاء دولة مستقلة، كما سارع الإسلاميون بتطبيق قانون العزل السياسي الذي يقصي العديد من الوجوه من المشاركة في العملية السياسية، بالإضافة لاختلاف المؤتمر الوطني العام سنة 2012 حول العديد من القضايا السياسية و الإدارية، مما ساهم في تراجع ثقة المواطنين في المسلسل الديمقراطي في غياب الدولة الوطنية وحضور أطياف قبلية والفلول الثورية في المشهد الليبي. من جهة ثانية، يعتبر دور المؤسسات الدولية والإقليمية غير مؤثر وشكلي، خلافا لتدخلات حلف الشمال الأطلسي، فإن بعثة الأممالمتحدة في ليبيا، تعد صغيرة العدد ورمزية وغير ذات أهمية مقارنة مع بعثات الأممالمتحدة في الكونغو مثلا وفي كوسوفو سابقا، وليست لها سلطات تنفيذية بإمكانها المساعدة على تحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا، وهذا ما ينذر بفشل التدخل العسكري الغربي وتحول الانتصار بالثورة ونهاية نظام القدافي إلى هزيمة مدوية في حالة سقوط ليبيا في مغبة الحرب الأهلية واستمرار هشاشة منطقة الساحل وتحولها إلى تهديد حقيقي للمصالح الاقتصادية الغربية فلا يستقيم أي نشاط اقتصادي في غياب الشروط الدنيا للأمن والاستقرار. إن منطقة المغرب العربي منطقة جيوسياسية بامتياز، تجتاز حاليا لحظة سياسية عصيبة تحتاج لمجهودات إقليمية ودولية لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي، وفي هذا الباب يحاول المغرب القيام بأدوار حيوية تتقاطع مع الدور الدولي لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. وتدخل زيارة العاهل المغربي لتونس الأخيرة خلال شهر يونيو/حزيران 2014 في إطار إعادة ترتيب الأوراق السياسية والاقتصادية من خلال تقوية الشراكة الاقتصادية مع تونس بالتوقيع على العديد من اتفاقيات التعاون في جميع القطاعات (23 اتفاقية) وإخراجها من تأثير النفوذ الجزائري الذي يقدم مساعدات اقتصادية لهذا البلد للتأثير عليه لتبني موقف مؤيد للموقف الجزائري خاصة فيما يتعلق بقضية إقليم الصحراء ورغبة الجزائر في الزعامة الإقليمية والإبقاء على الوضع الجامد لاتحاد المغرب العربي. المجهود المغاربي والدولي يجب أن ينصب على النقاط التالية : - دعم التجربة الديمقراطية في تونس، حيث أن استقرار الوضع السياسي بعد الوصول إلى توافق حول حكومة كفاءات وطنية بين مختلف الفرقاء السياسيين والانتهاء من الدستور من شأنه أن يساهم في تحسن الأوضاع الأمنية في البلاد وتقوية مؤسسات الدولة أكثر من قبل وهو ما لن يترك في المستقبل المجال للجماعات الإرهابية للتحرك بكل أريحية أو القيام بنشاطاتها مثل ما كانت عليه خلال الفترة الماضية. -دعم مسلسل الوفاق الوطني في ليبيا، ففي غياب قوات دولية لحفظ السلام، يكون المغرب والجزائر بإمكانهما أن يلعبا دورا محوريا من خلال دعوة الليبيين إلى الحوار ونزع فتيل الاقتتال ووضع دستور ديمقراطي يركز على الديمقراطية والتعددية السياسية، ويجنب البلاد السقوط في مستنقع التطرف الاسلامي أو الديكتاتورية بالرجوع للنظام العسكري أي المربع الأول، بما لا يخدم المسار الديمقراطي. فالحاجة إلى الأمن لا تبرر إطلاقا الرجوع والانقلاب على الديمقراطية كما حصل في مصر، فالمطلوب رد الاعتبار من جديد للمؤسسات السياسية التي لم يعد المواطن الليبي يثق في فاعليتها مع وجود حكومات شكلية تتنازع السلطة وقوة عسكرية بقيادة حفتر تحارب الحركات الإرهابية بمنطق أمنى فج وغير مدروس. - تحريك دور الوساطة للدول المغاربية والمؤسسات الدولية وتمكين الأممالمتحدة من المعلومات الكافية حول الجماعات الليبية المسلحة حتى يتأتى القضاء عليها، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى دور المغرب الجديد كوسيط لحل المنازعات الإقليمية وحصوله على تجربة في إدارة الأزمات كما هو الشأن بالنسبة للتدخل المغربي كوسيط لحل الأزمة في مالي. - تقوية القوات المسلحة الليببية: غياب الأمن يرجع بالأساس الى ضعف القوات المسلحة الليبية، وتحاول الولاياتالمتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي تدريب أزيد من 15.000 مجندا في السنوات المقبلة لضعف قدرتها التقنية وامكانياتها التدريبية، شريطة أن يقترن هذا المجهود بإجراء مصالحة شعبية وتنظيم مجتمع مدني فاعل وقوي وتمثيل معظم أطياف المجتمع الليبي . فلن يتأتى الاستقرار قي المنطقة دون حضور منطق التوافقات المجتمعية حول مشروع الدولة الوطنية التي تقبل بإدماج كافة الشرائح والحساسيات السياسية دون تهميش أو إقصاء، و يمكن في هذا الباب للمغرب والجزائر تقديم الدعم و تدريب القوات النظامية الليبية دون المشاركة بإرسال قوات مسلحة للتدخل فوق التراب الليبي، مما قد يؤجج مشاعر الرفض لدى المواطنين الليبيين. - المساهمة في مراقبة الحدود وما يتطلب ذلك من تبني استراتيجية متطورة لأنظمة الأمن والمراقبة والتنسيق بين البلدان المغاربية لمنع تسرب الجماعات المسلحة والمخاطر الأمنية المتعددة التي تهدد استقرار المنطقة. - إنشاء بنيات إدارية قوية وفاعلة تدعم السلطة السياسية القائمة و تسهر على مصالح المواطنين. وأخيرا يتضح أن المعالجة الأمنية والتدخل العسكري في ليبيا ومنطقة الساحل، لن يساهم في حل إشكالية الأمن ومحاربة الإرهاب والعنف دون المرور إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي الحقيقي والتعبير عن ارادة الشعوب في العيش الحر والكريم، كما أن التنمية المستدامة للبلدان المغاربية والافريقية تبقى من الرهانات الحقيقية. فالأمن والاقتصاد وجهان لعملة واحدة. من الناحية الجيوسياسية تحتاج منطقة المغرب العربي والساحل إلى فاعلين إقليميين بإمكانهم ضمان التوازن الاقليمي وخاصة في ظل التسابق والمنافسة الدولية لاكتساح مناطق تزخر بمواردها الطبيعية. المغرب كبلد يشهد استقرارا سياسيا وأمنيا، لا يتوانى في الدعوة إلى إعادة إحياء اتحاد المغرب العربي وتحريك اتفاقية أكادير للتبادل الحر، ورغم صعوبة إنجاز هذا المطلب بعد جمود الاتحاد المغاربي لأزيد من 25 سنة، يبقى التغيير الحقيقي للنخب السياسية هو المدخل المناسب لبناء منطقة مغاربية مندمجة اقتصاديا، فالتنمية الاقتصادية قادرة - إن تحققت في هده البلدان - على إبعاد خطر التهديدات الأمنية وعلى تحقيق الرفاه الاقتصادي وتطوير الانتاجية والفعالية في عالم يتجه أكثر نحو التكتلات الاقليمية والتحالفات القوية بين أطراف النظام الدولي وعناصر الأنظمة الفرعية في تنسيق للأدوار الاستراتيجية بينها.