ثمة رسالة قوية في الخطاب الملكي أمام البرلمان التونسي، منطلقها أن المغرب وتونس ينتميان لنفس المسار، وإن اختفت بعض التفاصيل، مسار التوافق والتعاقد بين مختلف المكونات المجتمعية والسياسية واستصحاب معادلة الإصلاح في إطار الاستقرار، ومتجهها أن هذا الخيار الإصلاحي، رغم كلفته وجرأته وفرادته بالنظر إلى ما يجري في الوطن العربي، إلا أنه لوحده ليس كافيا ليجعل دولة ما داخل المحيط المغاربي قادرة لوحدها أن تواجه التحديات المتعاظمة المطروحة أمامها. نعم تستطيع كل دولة بهذا الخيار الإصلاحي التراكمي أن تدبر توتراتها الداخلية، وتستطيع أن تقنع شعبها بأن تحقيق العدالة على الوجه الأكمل وبما يقترب من تطلعاتها لن يكون أمرا سهلا من غير تضحيات تعيد التوازنات الكبرى للدولة وتصالح المجتمع مع مؤسسات الدولة، لكنها ابدا لا يمكن أن تكون بديلا عن خيار التكتل الإقليمي والاندماج المغاربي في بعده الاقتصادي والاجتماعي، والتنسيق الأمني المحكم لمواجهة التحديات القادمة من الساحل جنوب الصحراء والقادمة أيضا من البلدان غير المستقرة في المحيط المغاربي. اليوم، انضاف إلى التحديات الأمنية بدول الساحل جنوب الصحراء تحدي انفلات الوضع الأمني بليبيا، واحتمال تمدد الإشكالات الأمنية منه إلى جوارها- وما تشهده تونس من تحديات أمنية بهذا الصدد مؤشر بارز على ذلك- هذا دون الحديث عن مخاطر التدبير الانفرادي للشراكات مع الاتحاد الأوربي ومع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودون الحديث أيضا عن الفرص الاقتصادية الضائعة والمهدرة من جراء حالة الجمود التي يعرفها الاتحاد المغاربي. ثمة تحديات أمنية، وفرص اقتصادية، وتطلعات اجتماعية، لا يمكن الجواب عنها جميعها من غير المضي في مسار واحد عنوانه في الداخل تعزيز المسار الإصلاحي التوافقي، وعنوانه على مستوى العلاقة مع الجوار المغاربي هو الاندماج الاقتصادي والاجتماعي وتعزيز فرص التعاون والتنسيق بين دول الاتحاد المغاربي الخمسة، وإحياء هذا الاتحاد على قاعدة جديدة تعيد النظر في بعض المقتضيات الواردة في ميثاقه، والتي جعلت منه جثة هامدة بسبب الخلافات السياسية بين بعض أعضائه. المغرب وتونس مؤهلتان للقيام بدور مركزي في حمل وتنزيل هذه الرؤية، لأنهما ينطلقان من نفس الأرضية، أي أرضية الإصلاح، ويعيشان تقريبا نفس التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مع الأخذ بعين الاعتبار أثر تأخر المسار الانتقالي على وضعية الاقتصاد وبداية معافاته في الحالة المغربية، ويتطلعان معا إلى فرص اقتصادية واعدة للخروج من عنق الزجاجة. تونس اليوم معنية أكثر من أي دولة أخرى في الاتحاد المغاربي بالتقاط هذه الرسالة، بحيث لم يعد خيارها السابق في التعاطي مع العلاقات المغربية الجزائرية المتأزمة ناجعا، فخطر الإرهاب العابر من الجوار يتهددها أكثر من أي وقت مضى، وهذه المرة يتهدد مؤسساتها ورموز الدولة من مختلف المكونات، ويتهدد بدرجة أكبر مسارها الإصلاحي، ثم إن إمكاناتها الاقتصادية الحالية لا تغطي سقف التطلعات العالية للشعب التونسي، فلا خيار لها اليوم سوى أن تضغط بقوة من أجل دعم خيار الاندماج الاقتصادي والتنسيق الأمني بين دول الاتحاد، وعدم مجاملة أي طرف يعيق هذا المسار الحيوي لمصالحها. ليس في الرسالة أي محاولة لخلق اصطفاف لمحاصرة طرف دون آخر، وإن كانت الجزائر تشتغل بعقلية نسف المبادرات التي أقدم عليها المغرب لفائدة دول المنطقة جميعا – نموذج ما تقوم به في مالي-، ولكن الرسالة في المقابل تقدم رؤية واقعية واستراتيجية لمستقبل المنطقة، فإما اندماج مغاربي يقوي قدرة الدول الأعضاء على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وإما تمدد الانفلات الأمني وتعثر الانطلاق الاقتصادي ومراوحة المكان بخصوص القدرة على تلبية انتظارات الشعوب، واستحالة أن تقوى أي دولة بمفردها على مواجهة هذا السيناريو المرعب.