ظاهرة إنتاج العنف والتشجيع على الإجرام من طرف التلفزيون، تفسر من خلال واقع اللهت وراء نسب المشاهدة في صلة بانتشار ظاهرة "تلفزيون الواقع" عبر العالم، ومع الأسف نحن دائما نأخذ سلبيات الأشياء ولا نأخذ إيجابياتها، ومع كامل الأسف التلفزيون عندنا لم يعد يروج للنماذج الناجحة في المجتمع، وأصبحت نماذج اليأس والفشل والإحباط والانحراف هي الأيقونات المثالية التي يروج لها التلفزيون العمومي اليوم للجيل الجديد، فشاشة التلفاز لم تعد كما أيام زمان حيت كانت فضاء للقاء النخب على المستوى الفكري والسياسي والأدبي والفني والثقافي، هكذا كان المتواجدون على الشاشة في المجمل نماذج للنجاح وهو ما يجعل المشاهد يحلم بذلك المستوى ويضع تلك الشخصيات بمثابة مثل أعلى ويبحث من أجل أن يكون في مستوى هؤلاء الرموز، اليوم الظهور في التلفزيون أصبح له شرط وحيد وهو الانحراف وأن تكون تعيش تجربة فاشلة وهنا أقصد ما يسمى بالبرامج الواقعية من قبيل "الخيط الأبيض" و"قصة الناس". هكذا أصبح شرطا للظهور في التلفزيون أن تحمل مأساة ومعاناة وفشل ما في الحياة سواء هَمَّ هذا الفشل مجالات التعليم أو الاجتماع أو الثقافة أو حتى الانحراف السلوكي، هكذا فقط ينتبه لك الإعلام البصري وتصبح ضيفا مرحبا بك في البرامج التلفزيونية، وهذا يخلق رسالة سيئة لدى النشء والشباب لأنه يطرح سؤال ما فائدة الدراسة والاجتهاد والتعب من أجل التميز وأن تكون شاعرا أو مفكرا أو سياسيا مادام نجوم الشاشة اليوم هم مجرمين منحرفين نستضيفهم بالبرامج ونحتفي بهم. وهنا يطرح مشكل آخر يتعلق بطريقة معالجة الجريمة بهذه البرامج لكونها طريقة فيها نوع من التمجيد والاحتفاء، حيث يصور المجرم على أنه خارق وذكي وقادر على الإفلات من رصد أجهزة الأمن وإنجاز جرائمه بدقة، ويحضر في هذا الصدد كذلك نوع التعليق والموسيقى المستعملة في هذه البرامج ونوع "المونطاج" والخطاب والتي تروج كلها لفكرة أن المجرم هو إنسان غير عادي ومتميز عنا بنوع من الذكاء والدهاء والدقة في التخطيط وتنفيذ الجرائم. وهذا للأسف يُخلف في لا شعور المتلقي ذلك النوع من الإعجاب بهذه الشخصيات. وبالتالي فالعديد من البرامج تذهب في هذا الاتجاه بل منها حتى الدرامية والسينمائية، حيث تعطي رسائل تفيد بأنك ولكي تكون مليونيرا وشخصا ميسورا عليك القيام بنفس ما تقوم به تلك النماذج. أنا لست ضد معالجة قضايا الإجرام على الشاشات التلفزيونية، فقط ينبغي أن تناقش قضايا الانحراف السلوكي عند الإنسان بحضور الخبراء والمتخصصين من أجل إيجاد علاج، ولست كذلك ضد إعادة تشخيص الجرائم بطريقة درامية من أجل إعطاء العبرة للناس، بشرط أن تكون بطريقة وأسلوب يقدم النصيحة ويعطي العبرة في نهاية البرامج حتى لا تتكرر تلك الجرائم، وهنا أنوه بطريقة معالجة برنامج "مداولة" لمثل هذه القضايا لأنه يقدم تلك الجرائم بطريقة تجعلنا نأخذ الدرس في نهاية الحلقة ويكون أيضا حضور الجانب القانوني والقضاء مما يضفي وظيفة توعوية على البرنامج، ويجعل له نتائج إيجابية على المتلقي، أما باقي التناول الذي نشاهده في برامج (أخطر المجرمين، ومسرح الجريمة، ومسلسلات موجهة للأطفال..) فهي تقدم الجريمة بطريقة محايدة تجعل المتلقي يتعاطف مع المجرمين أو يعجب بهم، وهذه رسائل خطيرة يجب أن تخضع للرقابة خاصة على مستوى الإعلام العمومي، حيث ينبغي أن يكون هناك أناس حريصون على نوع الخطاب الموجه للجمهور من خلال البرامج التلفزية، وبالتالي فليس المشكل في تناول مواضيع الإجرام لكن الخطورة كل الخطورة في الطريقة التي تتم بها معالجة هذه القضايا.