هل تجاوزت برامج الجريمة الخطوط الحمراء في قنوات التلفزيون المغربي؟ سؤال تثيره انتفاضة المجتمع المدني ضد هذه البرامج. بيانات إدانة، انتقادات، وقفات احتجاجية، رسائل مرفوعة إلى مدير القطب العمومي.. كلها تنتقد طريقة معالجة الجريمة في برنامجي “أخطر المجرمين” و”مسرح الجريمة”. بل ثمة من يذهب أبعد ويطالب بوقف هذه البرامج. في المقابل تعطي نسب مشاهدة البرنامجين المذكورين صورة أخرى عنهما وتقدم حقيقة واحدة عنوانها الأبرز : المغاربة يقبلون على مشاهدة برامج الجريمة بكثرة. هنا بالذات يكمن الخطر. لكن، ماذا في هذه البرامج يحمل صفة الخطر ويتهمها بتجاوز الخطوط الحمراء؟ هذا ما تحاول المواقف التالية الإجابة عنه. هل تجاوزت برامج الجريمة الخطوط الحمراء؟ “جرائم التلفزيون” في قفص اتهام المجتمع المدني قبل أشهر قليلة رفع محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، رسالة إلى فيصل العرايشي، الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، ينقل له فيها طلب المحكومين بالإعدام بالسجن المركزي بالقنيطرة بوقف برنامج “أخطر المجرمين” الذي تقدمه بوتيرة شهرية القناة الثانية. السبب، أن البرنامج قام بإظهار صور هؤلاء المحكومين بالإعدام دون أخذ موافقتهم أو إذن منهم أو من الجهات القضائية المختصة، ولم يراعي بهذا “الانتهاك” خصوصيات الأشخاص المعنيين وعائلاتهم، وعلى وجه الخصوص أبناءهم وبناتهم الذين لا بد أن يكونوا تأثروا وعانوا من تبعات بث صور ذويهم. واقعة غير منفردة أو معزولة. هيئات المجتمع المدني سرعان ما ستنتفض ضد “أخطر المجرمين” بدوزيم و”مسرح الجريمة” بميدي ان تي في، مطالبة بتوقيفهما نظرا لخطورتهما على الأطفال والمراهقين. فإذا كانت مجموعة من الجمعيات المدنية قد أعلنت أنها ستقوم الأسبوع المقبل بوقفة احتجاجية ضد برامج الجريمة بالقنوات المغربية، وأصدرت بيانات من قبل داعية إلى وقفها، فإن الجمعية المغربية لحقوق المشاهدين قد عقدت اجتماعا يوم الثلاثاء الماضي للنظر في عدد من الشكاوى التي تقاطرت عليها من المواطنين بخصوص هذه البرامج. مصطفى بنعلي رئيس الجمعية قال في تصريح لملحق “إذاعة وتلفزة” أن الهيئة تنصت باستمرار لنبض المجتمع المغربي وتستجيب لنداءاته. وفي هذا السياق كان ضروريا أن تصغي لاحتجاجات المشاهدين وتدرس شكاواهم بخصوص برنامجي “أخطر المجرمين” و”مسرح الجريمة” ثم تخرج ببيان يترجم انشغالات المشاهدين من دافعي الضرائب. وحول النقاط التي وردت في لقاء أعضاء الجمعية المغربية لحقوق المشاهدين، قال بنعلي أنه كان ثمة عدة مؤاخذات منها : * تقديم المجرمين في صورة أبطال من خلال المبالغة في وصفهم بأوصاف إيجابية يكون لها تأثير خطير على نفسية الأطفال والمراهقين الذين يرون في هؤلاء المجرمين نموذجا قابلا للتقليد والاحتذاء. * عدم مراعاة حقوق النشء في اختيار أوقات البث خصوصا أثناء إعادة بث البرنامجين في نفس القناتين المنتجتين لهما أو في قناة المغربية. ذلك أن الإعادة غالبا ما تكون بعد الزوال حيث غياب أولياء أمور الأطفال ممن لا يُسمح لهم بمشاهدة مثل هذه البرامج. * الاعتماد على تمثيل الجرائم المرتكبة بتفاصيلها المثيرة مما يجعل من التلفزيون مدرسة لتعلم الجريمة وهو يرشد المراهقين والأطفال للكيفيات والطرق التي تُقترف بها هذه الجرائم. * استعمال خطاب في بحثه عن خلق التشويق والإثارة يعمد إلى استخدام عبارات من قبيل “لم ينتبه المجرم إلى هذا التفصيل وترك الدليل على جريمته” (استعمل هذا التعبير في الحلقتين الأخيرتين) وهو ما يعتبر تنبيها لا يجوز استعماله. أصوات المجتمع المدني سبقها منذ بداية بث البرنامجين المذكورين عدد من الأقلام الصحافية التي نبّهت إلى خطورة هذه البرامج على الأطفال والمراهقين وهي تكيل النقد لهما، خصوصا بعدما أظهرت نتائج قياس المشاهدة تقدمهما واحتلالهما للمراتب الأولى أكثر من مرة، مما يزيد من حدة ناقوس الخطر ويدفع إلى التفكير في ضرورة إعادة النظر في طريقة عرض هذه البرامج على ضوء الانتقادات الوجيهة التي تقدمها قوى المجتمع المدني. **************************** موليم العروسي : هل تختلف برامج الجريمة عن الأفلام الرخيصة بالتلفزة المغربية؟ “أنا لا أوافق هذه الحملة وأرى فيها شيئا من الإجهاز على حرية الاختيار”. هذا هو العمق الذي يبني عليه المفكر والناقد موليم العروسي رأيه فيما يخص المؤاخذات المسجلة في حق برامج الجريمة في قنوات التلفزيون المغربي. وهو رأي لا يعني بالضرورة أنه يحب هذه البرامج. بل وبتعبيره “ليس هناك قناة تلفزية مغربية ثقافية أو سياسية تشفي غليلي، وعلي الرغم من ذلك فأنا لا أصيح في وجه الرياضية أو السادسة وأطالب بحذفهما وتعويضهما بقناة تهمني. على العكس أنا أدافع عمن يريد الاستماع للدروس الدينية وعمن يريد الاستمتاع بالرياضة وأطالب بحقي في قناتين، واحدة ثقافية وأخرى سياسية”. صاحب “الفضاء والجسد” يصدر عن فكر الاختلاف. لذلك يلغم جوابه بالأسئلة. يقول في معرض رده على الاعتراضات المسجلة حول برامج الجريمة «لا أدري ما هي الأسس التي اعتمد عليها كل من انتقد تقديم التلفزيون لبرنامج كبرنامج مسرح الجريمة بميدي ان تيفي أو أخطر المجرمين على القناة الثانية؟ هل تختلف هذه البرامج كثيرا عن الأفلام الرخيصة التي تبثها القنوات التلفزية الوطنية؟ هل فيها من العنف أكثر من المسلسلات الأمريكية التي لا تتوقف في التلفزة المغربية؟ هناك من يشير إلى مشكلة التوقيت طبعا، مشكل الإعادة خصوصا بالنسبة لقناة ميدي1 تيفي التي أشك في أن الأطفال يتابعونها.». العروسي يذهب أبعد حين يسائل معنى المجتمع المدني الذي يقف وراء المطالبة بإيقاف برنامجي “أخطر المجرمين” و”مسرح الجريمة”، ويدعو إلى ضرورة عدم الانقياد خلف تضخيم فكرة المجتمع المدني. ويرى أن الآباء الذين يريدون حماية أبنائهم من التلفزيون ما عليهم إلا أن يرافقوهم خلال بث هذه البرامج على القناتين المذكورتين. أو إرشادهم لمشاهدة مواضيع معرفية أو ثقافية على الرابعة أو أية قناة تلفزيونية أخرى. ويتساءل “هل يعني هذا أن الآباء يتركون الحبل على الغارب ولا يراقبون ما يشاهده أبناؤهم؟”. كما يستند صاحب “مدارج الليلة البيضاء” إلى إشارة منع الفئة العمرية لأقل من 12 سنة من متابعة هذه البرامج مفترضا أن القناتين لا بد أن تكونا استشارتا أخصائيين في علم النفس. وفي السايق ذاته يعتبر أن تعلة تعلم الأطفال للعنف من مثيل هذه البرامج ومن خلال مشاهدتهم لأفلام عنيفة لا تصمد كثيرا أمام نظرات في علم النفس تقول “بأن مشاهدة العنف قد تساعد على تصريفه في الاستيهام والعزوف عن القيام به في الواقع”. وإيمانا منه بمبدأ الاختلاف يرفض موليم كمواطن وكمثقف وكسياسي أن يكون طرفا مشاركا في التضييق على الرأي من خلال مطالبته بوضع قيود على ما تنشره قناة ما بدعوى أنه مناف لما لا يتفق معه.. «يمكنني أن أطالب ببرنامج ما أو ببرمجة ما لكنني مهما اعتبرت ان رأيي يتبناه أكبر عدد ممكن من المواطنين لا يمكنني أن أفرضه كما لو كان هو الصواب الذي يجب اتباعه. نحن نناضل من أجل أن لا تطغى الأغلبية العددية لا في التلفزيون ولا في الحياة السياسية ولا في ميدان من الميادين لأن في ذلك تنميط للمجتمع، تنميط لا يقود إلا للاستبداد. تعدد القنوات يعني أن المواطنين الذين يؤدون الضرائب بإمكانهم جميعهم أن يستفيدوا من مشاهدة التلفزيون». ************************ محمد أزهر : برامج الجريمة تُظهر المجرمين في صورة أبطال * كمتخصص في علم الإجرام، ما رأيك في برامج الجريمة في التلفزيون المغربي (أخطر المجرمين بدوزيم ومسرح الجريمة بميدي ان تي في) وفيما أصبحت تثيره من ردود فعل رافضة من هيئات المجتمع المدني؟ ** أظن أن الأمر يتعلق بتخصص علوم الإعلام أكثر منه بتخصص علم الإجرام. ومع ذلك نحن نعلم أن أي برنامج تلفلزيوني يخضع لعدة مقومات عليها أن تحترم المتلقي من حيث تكوينه وأعرافه وتقاليده وثقافته. ونعلم أن البرامج التلفزية سلاح خطير جدا يؤثر تأثيرا قويا على المشاهدين. الكثير من الدراسات تؤكد أن هناك تأثيرا قويا للإعلام وخصوصا للأفلام الروائية في الزيادة من حجم الإجرام. والغريب في الأمر أنني عندما أشاهد التلفزيون المغربي لا أجد إلا الرداءة لا من حيث الإخراج أو الصورة أو السيناريو، لكن برامج الجريمة هذه فيها نوع من الإبداع والإثارة. والخطير أن هذه الجوانب التقنية يتم استغلالها في جانبها السلبي لا الإيجابي. بمعنى أنها تعتمد على عنصر التشويق والألوان وجمالية الصورة لتشد الأنظار، ثم إن مضمونها والسيناريو المحبوك في تصوير الأحداث تُظهر المجرمين في صورة أبطال وليس في موقع مجرمين يجب محاسبتهم. هكذا، عكس أن تثير هذه البرامج التي أشرت إليها السخط على المجرمين وأفعالهم نجد أن الأطفال والمراهقين يُعجبون بهم. * هذا يقود إلى سؤالك عن مدى تأثير برامج الجريمة على الأطفال والمراهقين خصوصا على ضوء الصورة البطولية التي تعطيها هذه البرامج للمجرمين كما أشرت؟ ** إذا قارنا هذه البرامج بتلك التي تعرضها القنوات التلفزية الأمريكية سيظهر لنا الفرق جليا. ونكتشف كيف يخاطر رجال الأمن هناك بحياتهم للإيقاع بهؤلاء المجرمين مع تشويه صورتهم عن طريق إذلالهم في رسالة تلفزية تروم عكس الجانب التربوي الضمني في البرنامج وتنفير المشاهدين من أي نزوع نحو الإعجاب بالمجرم ومحاولة تقليد أفعاله. بخلاف برامجنا التي تتسم بنوع من المبالغة من خلال شهادات رجال الشرطة والشهود والضحايا التي تبين المجرم في صورة الذكي، القوي إلى غير ذلك من أوصاف إيجابية. بل الأدهي من ذلك أن هذه البرامج تبين كيفية ارتكاب الجريمة بحذافيرها، وتسلط الضوء على المجرم من خلال إظهار كيف يلبس (حذاء رياضي، سروال عسكري أو بّارا..) وكيف يتعامل مع الآخرين، بالإضافة إلى استعمال أوصاف من قبيل (وكان يتمتع بخفة ورشاقة وقوة..).. وهذا قد يدفع بعض الشباب والأطفال إلى التماهي مع هؤلاء المجرمين ويسعون إلى تقليدهم نظرا لأن الخطاب المرافق لهذه البرامج يقوم على نوع من التحفيز لا الردع. لذلك أرى بأن هذه البرامج تسيء إلى النشء وتربيتهم، كل هذا من أجل شد انتباه المشاهدين بقصد تحقيق أعلى نسب في المتابعة. * كرجل قانون، ما هي أوجه الحماية القانونية للمشاهد من هذا النوع من البرامج؟ ** الحماية القانونية ترتبط في هذه البرامج بالإساءة التي تلحق ببعض الأشخاص، وبالتالي الإساءة إلى طبيعتهم، بمعنى أنهم أناس “على قد الحال”، ليسوا بشخصيات مهمة، لذلك تُحرق صورتهم في هذه البرامج، علما أن للإنسان الحق في صورته. وأنا هنا أتحدث عن الضحايا وعن الشهود الذين حضروا الوقائع لا عن الممثلين الذين يتقاضون أجرا. وحتى لو قلت لي بأن الأمر يتم بإرادة هؤلاء الشهود والضحايا فإنه يجري وضعهم في إطار صور غير مقبولة. والخطير هو أن يتم استغلال سذاجة هؤلاء الناس وعدم معرفتهم بالكاميرا. الإساءة لا تتوقف عند الأشخاص بل تتجاوزهم إلى المجتمعات الصغيرة، وأعني أسر المجرمين والأحياء التي ينتمون إليها، وذلك عندما يتم ذكر أسماء هذه الأحياء في سياق الحديث عن الوسط الذي يعيش فيه المجرم أو الحي الذي كبر فيه... والحال أنه بالإمكان حبك سيناريو يعرض القضية بعيدا عن التشهير لا بالأشخاص فقط بل بالمجتمعات الصغيرة، سيناريو يكتفي بالإيحاء والرموز بدون كشف الأمور وإعطائها جغرافية. وقد لاحظت كيف أن رجال الأمن يتكلمون عن هذه الأمور بشكل عادي في سياق الحديث عن تفاصيل الجريمة، أعرف أن ثمة ترخيص من الإدارة لهم بذلك لكن لا بد من مراقبة ما يصرحون به حتى لا يساهم في رسم صورة عن المجرم تؤثر على النشء. أقول هذا وأنا أضع نصب نظري تجارب عدد من الدول التي استعملت التلفزيون كأدة للحد من الجريمة وليس لاستفحالها.