عظم الإسلام من شأن العمل، فجعل جزاء الإنسان على قدر عمله، فقال الله تعالى في القرآن الكريم (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) سورة النحل، كما أن القرآن الكريم يضرب أمثلة بمجموعة من الأنبياء الذين عملوا وكسبوا من قوت أيديهم، فقد عمل ادم بالزراعة، ونوح بالنجارة، وموسى بالرعي، وداود بالحدادة، ومحمد صلى الله عليه وسلم برعي الغنم والتجارة. ويقول الفقهاء انه لا يجوز للمسلم ترك العمل باسم التفرغ للعبادة أو التوكل على الله، ولو عمل في أقل الأعمال فهو خير من أن يسأل الناس منعوه أو أعطوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يأخذ أحدكم حبله, ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب, فيبيع فيأكل ويتصدق, خير له من أن يسأل الناس) ولا يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على مجرد العمل ولكن على تجويده واتقانه فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يحب أحدكم إذا عَمِلَ عملاً أن يتقنه). كما دعا الإسلام أصحاب الأعمال إلى معاملة العامل معاملة إنسانية كريمة، وإلى الشفقة عليه والبر به وعدم تكليفه ما لا يطيق من الأعمال إلى غير ذلك من الحقوق التي منحها الإسلام للعامل. العمل والكرامة يورد العالم المقاصدي أحمد الريسوني نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في ورقة حول "حقوق العمال رؤية إسلامية"، حقوق العمال والأجراء في سيق كبير هو حفظ الكرامة فقال الكرامة هي أغلى ما يملكه الإنسان، وأنفس ما وهبه الرحمن. ولو تصورنا أن للإنسان سعرا معينا، فإن ما لا يقل عن تسعة أعشار قيمته هي كرامته. ونستطيع أن نقول: إنما الإنسان إنسان بكرامته، ويردف الريسوني قائلا قد يقول قائل: إن حقوق العمال اليوم أصبح لها قوانينها الخاصة ومحاكمها الخاصة، ونقاباتها ومنظماتها الخاصة، الوطنية والدولية، فما حاجتها إلى المبادئ الدينية والمواعظ الأخلاقية؟ وأود أولا: أن أرحب وأشيد بكل هذه التطورات والمكتسبات التشريعية والقضائية والنقابية. وأنبه ثانيا: إلى أن المبادئ الدينية والأخلاقية هي أول ناصر للمستضعفين، وأول منبع لأفكار القانونيين، وهي أقدم مُلهم للمناضلين والمصلحين. وثالثا: في جميع مجالات الحياة والعلاقات البشرية، هناك مناطق لا تدخلها القوانين، وهناك وقائع لا يستطيع القضاء إثباتها، لكن العقيدة والأخلاق تتقدمان وتنفعان حيث تتوقف التدابير القانونية، وحيث تعجز الأحكام القضائية. ورابعا: معظم المستضعفين لا يستطيعون الوصول إلى القضاء ومتابعة إجراءات التقاضي، ولا يستطيعون الوصول إلى المنظمات النقابية والحقوقية، فهل نترك هؤلاء بين مطرقة ظالميهم وسندان عجزهم؟ أم نسعفهم بتقوية الوازع الديني والحافز الخلقي، وبنشر ثقافة العدل والإحسان بين الناس؟ وخامسا: فمعلوم أن القوانين والمحاكم - لوحدها - تظل عرضة لاحتيال المحتالين، وتمنُّعِ المتنفذين، وأبوابها الخلفية ومخارجها التحتية لا تكاد تغلق... ولذلك نجد أكثر مشاكل العمال وشكاويهم ليست من الخصاص التشريعي والقضائي، ولكن من موت الضمير وغياب الوازع الأخلاقي. حقوق العمال وعدالة اجتماعية جمع مجموعة من العلماء المعاصرين حقوق العمال والإجراء، والتي يرون أن الإسلام أوفى بها للعمال حقوقهم وكرامتهم ووفر لهم وفقها حياة كريمة وأقام بها عدالة اجتماعية وتتجلى حسبهم في ما يلي: أولا: حق العمل يقول العلماء إن هذا الحق من الحقوق المستحدثة حاليا، وبموجبه يلقى على كاهل الدولة توفير عمل لمواطنيها، فيما يؤكدون أن الإسلام وضع قواعد عامة وأحكام كبرى لهذا الحق منها الكفاءة والأمانة "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ"، المساواة، وفيم أخرى كبرى. فمن من واجب الدولة أن تهيّئ لكل قادر على العمل عملا يلائمه و يكتسب منه ما يكفيه ويكفي أسرته، وأن تيسر له من التعليم والتدريب ما يؤهله لهذا العمل، حتى يؤدى بذلك للعامل حقه في تأمين نفقاته العائلية لأن ذلك من كرامته. ثانيا: الحق في الأجر العادل وهو دفع الأجر المناسب لأجير على قدر العمل، بحيث يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان. وقد ورد الأجر في القرآن الكريم في خمسين ومائة موضع، وجاء وروده بالمعنى المتداول في الحياة العملية، كما ورد في أسمى المعانى وأكثرها تجرداً في شؤون الحياة الدنيا، ومن الأمثلة على المعنى المتداول في الحياة العملية، قوله تعالى "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجرى إلا على الله" (سبأ:47). وفي موضع آخر من قصة شعيب وموسى "قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" (القصص:25). وفي هذين المثلين الأجر: هو ما عرفناه من عوض المشقة أو جزاءاً عن الخدمة. كما نجد العمل في القرآن الكريم يذكر مقروناً بذكر الأجر، يقول تعالى "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون". ويقول تعالى "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" (التين:6). وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أيضاً تلازماً بين الأجر والعمل، وهذا كله عموم في الدنيا والآخرة – كما يقول ابن حزم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري. وفي حالة الظلم فللعامل الحق في الشكوى وحق التقاضي لاستيفاء حقه. ثالثا: حق عدم الإرهاق يجب على صاحب العمل عدم إرهاق العامل إرهاقاً يضر بصحته ويجعله عاجزاً عن العمل، ولقد قال شعيب لموسى عليه السلام حين أراد أن يعمل له في ماله: "وما أريد أن أشق عليك" (القصص:27 ). فإذا كلفه صاحب العمل بعمل يؤدى إلى إرهاقه ويعود أثره على صحته ومستقبله، فله حق فسخ العقد أو رفع الأمر إلى المسؤولين ليرفعوا عنه حيف صاحب العمل. رابعا: حق العمل بكرامة يجب على صاحب العمل أن يحفظ كرامة العامل، فلا يضعه موضع الذليل المسخر أو العبد المهان. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل مع الأجير ويساعده في احتمال أعباء ما يقوم به من عمل، كما لا يصح أن يضرب صاحب العمل العامل أو يعتدي عليه، فإن ضربه فعطب كان عليه الضمان. خامسا: حق الراحة للعامل الحق في الراحة، فلا يجوز لصاحب العمل إرهاقه إرهاقا يضرّ بصحته أو يجعله عاجزا عن العمل، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة:286). وقال شعيب لموسى عليه السلام "وما أريد أن أشق عليك" (القصص:27)، ويقول صلى الله عليه وسلم (ولا تكلفوهم ما لا يطيقون) رواه النسائي وابن ماجه، ويقول أيضا: (إن لنفسك عليك حقا وإن لجسدك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا)، وهذا يعطي العامل حقا في الراحة وأداء العبادة والقيام بحق الزوجة والأولاد. سادسا: حق الضمان كلمة ضمان أو " تضمين" في الشريعة الإسلامية أقرب ما تؤدي المعنى المراد في كلمة "المسؤولية المدنية" في الفقه الحديث. ومن الواضح أن تضمين الإنسان عبارة عن الحكم بتعويض الضرر الذي أصاب الغير من جهته. وقد قرر القرآن الكريم – وهو الأصل الأول للتشريع الإسلامي– مبدأ المسؤولية المدنية في قول الله تعالى "ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله" (النساء: 92). وقررتها السنة – وهي الأصل الثاني للتشريع – في عدة مناسبات، فقررتها في الإتلاف المباشر، عن أنس رضي الله عنه قال: أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعام في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طعام بطعام وإناء بإناء". وطبقاً للأسس المتقدمة يحق للعامل أن يطالب صاحب العمل بحقه في الضمان إذا توافرت شروطه التي عرضنا لها، وله أن يلجأ إلى القضاء للمطالبة بتعريض ما أصابه من ضرر. لقد ضمنت قوانين التكافل الاجتماعي في الإسلام المواطن عند عجزه أو مرضه نصيبا من بيت مال المسلمين يكفيه، كما ضمن الإسلام للعامل حق رعاية أسرته بعد وفاته، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}. فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه "ويقصد بذلك بيت مال المسلمين. قوله “أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" أي: في كل شيء من أمور الدنيا والدين، وشفقتي عليهم أكثر من شفقتهم على أنفسهم فأكون أولى بقضاء ديونهم (فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته) فمن ترك دينا أو ضياعا أي عيالا (فليأتني فأنا مولاه) أي: وليه وكافل أمره وفي شرح السنة: الضياع اسم ما هو في معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار والزمني الذين لا يقومون بأمر أنفسهم ومن يدخل في معناهم (فإلينا) أي: مرجعه ومأواه أو فليأت إلينا أي: أنا أتولى أمورهم بعد وفاتهم وأنصرهم فوق ما كان منهم لو عاشوا، وأنا كافلهم وإلينا ملجأهم، والمفروض أن تحل الدولة وبيت مال المسلمين محل شفقة ورحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سابعاً: حق الشكوى والتقاضي لم تقتصر الأحكام الإسلامية الخاصة بعلاقات العمل على تنظيم القواعد الموضوعية المتصلة بحقوق العمال. وإنما تناولت هذه الأحكام أيضاً القواعد الإجرائية التي تنظم حق العامل في الشكوى وحق التقاضي. فالإسلام لم يترك أطراف العقد فرطاً بل يسر لهم سبيل اقتضاء حقوقهم إن رضاءً أو اقتضاءً، كما حرص أشد الحرص على المحافظة على حقوقهم، واتخذ لذلك جميع الوسائل التي تحفظ هذه الحقوق وتصونها جميعاً. ومن هذه الوسائل إقامة الحق والعدل بين الناس، ذلك أن إقامة الحق والعدل هي التي تشيع الطمأنينة وتنشر الأمن، وتشد علاقات الأفراد بعضهم ببعض وتقوى الثقة بين العامل وصاحب العمل وتنمي الثروة وتزيد من الرخاء وتدعم الأوضاع فلا تتعرض لأى اضطراب ويمضي كل من العامل وصاحب العمل إلى غايته في العمل والإنتاج دون أن يقف في طريقه ما يعطل نشاطه أو يعوقه عن النهوض. وقد جاءت الآيات والأحاديث داعية إلى العدل، ومحذرة من الظلم ومحرمة له، والله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً بل لا يريد الظلم، يقول تعالى "وما الله يريد ظلماً للعباد" (غافر:31). وفي الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا". وما هلكت الأمم السابقة إلا بظلمها وبغيها "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا" (يونس:13)، ويقول تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" (النمل:52). ويقول تعالى: "ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع" (غافر:18)، ويقول تعالى: "وما للظالمين من نصير" (الحج 71 ). وفي الحديث "اتقوا المظلوم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"، وفي حديث آخر: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". ثامنا: حق الاستمرارية ليس لصاحب العمل أن يفصل العامل عن عمله إذا انتقصت مقدرته على الإنتاج لمرض لحقه من جراء العمل أو بسبب هرم العامل وشيخوخته. والقاعدة العامة أنه إذا اتفق صاحب العمل مع شاب على العمل فقضى شبابه معه ثم أصابه وهن في نشاطه بسبب شيخوخته مثلاً فليس لصاحب العمل طرده من العمل، بل عليه أن يرضى بإنتاجه في شيخوخته كما كان يرضى عن إنتاجه في عهد شبابه وقوته. ويرمز إلى هذه القاعدة ما تضمنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من أن رجلاً أرهق جملاً له في العمل فهرم فأراد أن يذبحه ليستريح من عبء مؤونته، فقال له صلى الله عليه وسلم: " أكلت شبابه حتى إذا عجز أردت أن تنحره، فتركه الرجل ". تاسعا: حق الاشتراط يجب على صاحب العمل أن يوفي العامل حقوقه التي اشترطها عليه، وألا يحاول انتقاص شيء منها. فذلك ظلم عاقبته وخيمة، ولذلك يجب على صاحب العمل ألا ينتهز فرصة حاجة العامل الشديدة إلى العمل فيبخسه حقه، ويغبنه في تقدير أجره الذي يستحقه نظير عمله، فالإسلام يحرم الغبن ويقرر لا ضرر ولا ضرار. كما يجب على صاحب العمل أن يحفظ حق العامل كاملاً إذا غاب أو نسيه، وعليه ألاّ يؤخر إعطاءه حقه بعد انتهاء عمله، أو بعد حلول أجله المضروب. كما يجب على صاحب العمل ألا يضن على العمل بزيادة في الأجر إن أدى عملاً زائداً على المقرر المتفق عليه، فإن الله يأمرنا بتقدير كل مجهود ومكافأة كل عمل.