اخترنا لكم في صفحتنا الأسبوعية هذه مقالين يحللان الحرب على العراق، أسبابها ودواعيها. وكذلك مجرياتها.الأول كتبه "جاك جوليان"، مدير النشر المنتدب في أسبوعية "لونوفيل أبسيرفاتور". وهو مقال يقدم تحليلا للتيارات الفكرية وليس الحزبية التي تتعاقب على حكم الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومنها التيار الفكري الذي يسيطر الآن على مراكز القرار في البيت الأبيض ويسيطر أصحابه على عقل الرئيس الأمريكي "جورج بوش". ويدفعونه إلى فرض الحرب على العالم وإلى الكارثة. أما المقال الثاني فكتبه رئيس تحرير "لونوفيل أبسرفاتور"، "جون مارسيل بوجرو"، وقد نشره يوم الثلاثاء الماضي في صحيفة "لاروبوبليك دي بيريتي". وهو تعليق قصير يشرح فيه الكاتب كيف تورط الأمريكان والإنجليز في معركة تبدو حاسمة وخاسرة بالنسبة لهم. عرف الجيش العراقي كيف يستدرجهم إليها. لتكون لهم كما كانت معركة ستالينغراد بالنسبة للنازيين الألمان، بحيث كانت تلك المعركة إعلانا عن نهاية الجيش النازي الذي لم يقهر من قبل. أنصاف الحمقى الدينيين -بقلم جاك جوليان -مدير التحرير المنتدب في مجلة "لونوفيل أوبير فاتور" الفرنسية يرى ملهمو جورج بوش المحيطون به في الولاياتالمتحدةالأمريكية "امبراطورية فاعلة للخير"، وامبراطورية عالمية ترتكز على الإيمان والقوة. إنهم أنصاف حمقى يملكون كامل عقولهم بدون أن يتوفروا على ذرة من الحكمة أو حتى التمييز.. من وراء جورج بوش؟ أصحاب شركات النفط؟ أصحاب البنوك؟ الجنرالات؟ بائعو الأسلحة؟ نعم يوجد شيء من كل هذا وراء هذا القس في زي الخنافيس، بل هؤلاء جميعا، ربما يوجد هناك إيديولوجيون منبثقون من وسط أمريكا أخرى مجهولة بالكامل من طرف الأوروبيين، هؤلاء الإيديولوجيون كانوا لزمن طويل يعتبرون مهتمين بسبب راديكالية أطروحاتهم، وظلوا يكظمون غيظهم على مضض في جامعاتهم ومجلاتهم، وفي محاضراتهم ولقاءاتهم، ومنذ نهاية الحرب الباردة، إنها أمريكا أخرى التي ظهرت في وضح النهار منذ ما يزيد عن سنتين، بعد أن ظلت لمدة كامنة تعتمل في النفوس، ومن الفضائل الكبرى لكتاب "بير هاسنير" وجوستان فايس" المعنون ب "واشنطن والعالم، معضلة قوة عظمى"، أنه يدخلنا في قلب مناورة فكرية هي الآن بصدد إحداث تغيير جذري في وجه العالم الذي نعيش فيه لدرجة جعله وجها مكشرا. وبما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تملك الوسائل لتفعل كل ما تريد بحجم كبير ولمدة طويلة، فإنه يدور منذ عقود نقاش دائم حول السياسة الخارجية، وهو نقاش نعاني، شئنا أم أبينا، من تداعياته. وإذا بسطنا على طاولة البحث تحاليل المؤلفين الدقيقة جدا في الكتاب، فإننا نستطيع أن نلخصها على الشكل التالي: هنالك كلاسيكيا في النقاش الجيوستراتيجي الأمريكي مسلمتان ثابتان تندمجان لتسهما معا في ميلاد أوضاع متنوعة في الأخير، المسلمة الأولى تتجلى في معيار الواقعية/ المثالية، والتي تجسدها جيدا النزوات النزاعية "لتيودور روزفيلت"، رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية من 1091 إلى 0291، والذي هو من أنصار سياسة "العصى الغليظة" والنظام الأمريكي: الذي يتمثل في أن تحتفظ الولاياتالمتحدةالأمريكية بحق فرض النظام على العالم الغربي بفضل "عصى غليظة" وعلى العكس فإن الرئيس "وودرو ويلسون" (2191 إلى 0291) كان من دعاةحق الشعوب في أن تتصرف حسب اختيارها، وكان ذلك من دعاة إقامة مجتمع دولي. المسلمة الثانية تضع مجابهة بين دعاة التصرف من جانب واحد، ودعاة ضرورة الرجوع إلى المجتمع الدولي، الأولون يعتنقون نظرية تعتمد على ضرورة أن تتصرف الولاياتالمتحدةالأمريكية بمفردها وحسب مصالحها لوحدها فقط، أما الفريق الثاني فله نظرية أخرى تقوم على أساس أن ينطلق أي تصرف للولايات المتحدةالأمريكية في إطار دولي، ومن خلال مؤسسات دولية، ولكن طبعا على أن يكون لواشنطن دور القائد. وإذا ما قمنا الآن بالتنسيق بين المسلمتين، فإننا سنحصل على أربع مدارس دبلوماسية واستراتيجية مختلفة: 1 الواقعيون الانفراديون: أولئك الذين يرون أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بقدر ما امتنعت عن الاهتمام بمشاكل العالم بقدر ما ستكون في وضع أحسن. وهؤلاء يسمونهم ب"الانعزاليون"، وهم يومنون بأن على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تقلص من الاهتمام بسياستها الخارجية إلى أقل ما يمكن، وأن تهتم فقط بسياستها الداخلية، وهؤلاء يمثلون يمينا متطرفا وفضا، يقودهم في الوقت الراهن "بات بوكانان". صحيح أن هؤلاء "الانعزاليين" لا يجدون في الوقت الراهن من يسمع لهم، ولكن علينا أن لا ننسى أنهم كانوا في بداية القرن العشرين وراء رفض مجلس الشيوخ في الكونغرس لمعاهدة فرساي ولدخول الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى "عصبة الأمم"، وهم عند أي فشل لسياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية الخاريجية يجدون نفسا جديدا قويا وأصواتا مدعمة لهم... 2 المثاليون دعاة التعددية في التصرف: وهم الذين يسمون أحيانا ب"الويلسونيين" نسبة إلى الرئيس "ويلسون" المذكور سالفا، وهم يتموضعون في الخط المعارض تماما ل "الانعزاليين"، أو بالتعبير الفرنسي على اليسار، وفي الاصطلاح الأنجلوساكسوني يسمون ب "الليبراليين" إنهم يدعون إلى الديمقراطية في الخارج كما في الداخل، ويدعون إلى جعل الديموقراطية تتقدم عن طريق الحوار والنقاش، ويمكن اعتبار "جيمي كارتر"، وكذلك إلى حد كبير "بيل كلينتون" ينتميان إلى هذا المسار، ونحن اليوم فقط نفهم بشكل أحسن الحظوظ التي كانت للعالم مع أمثال هؤلاء الرجال. 3 الواقعيون التعدديون، وهؤلاء قبل كل شيء براغماتيون لا يهتمون إلا قليلا بالمبادئ الكبرى، ولكنهم يرون أن على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تلعب دورها كاملا، وهو دور كبير في العالم كما هو، ويعتبر "هنري كسينغر" وزير خارجية "نيكسون" نموذجا واضحا لهؤلاء الذين كانوا مهيمنين خلال الحرب الباردة. المثاليون الانفراديون: وهؤلاء كنتم تنتظرون الحديث عنهم طبعا، إنهم من يحتل اليوم مركز القرار في واشنطن. وعلى طريقتهم التي هي طريقة القوة، وهم مثاليون، إنهم قوم يريدون أن يفرضوا على العالم مبادئ "ويلسون" بأساليب "روزفلت"، أي الديمقراطية "بالعصا الغليظة"، ويمكن كذلك أن نسمي هذا ب "العهد الأمريكي" أو هيمنة اليانكي. هؤلاء "المحافظون الجدد" في الغالب يساريون صحوا للتو من السكر، مثقفون وقعوا فريسة للغة الخشب، وانتهى بهم الأمر إلى السيطرة على عقل "جورج دبليو بوش" في نهاية صراعهم المفتوح مع "كولن باول"، القريب من الكنسنجرية"، بوش الغر ينسب نفسه إلى "الشفافية الأخلاقية"، وأخشى أن يكون في الحقيقة من اتباع "شفافية" فكرية تترك الباب مفتوحا أمام الإيديولوجيين، والحقيقة أن هناك في الولاياتالمتحدة أفكارا، وهذه الأفكار بالضبط هي التي توجد الآن في الحكم، وعندما تستولي أفكار ما على السلطة، يمكن أن نكون تقريبا على يقين بأنها ليست أحسن الأفكار، وإذن فإن أمثال "بول ولفويت" و"ريتشارد بيرل" و"روبير كيغان" و"وليام كريستول" هم أناس ثملون أسكرتهم سلطاتهم التي حصلوا عليها مؤخرا، وقد غمرتهم العجرفة أمام كل من لم يعرف نفس الترقي الذي عرفوه وبنفس السرعة. وهم مقتنعون بأن قانونهم هو الأحسن بما أنهم قد فرضوه بالقوة، إنهم يرون في الولاياتالمتحدةالأمريكية >امبراطورية فاعلة للخير"، امبراطورية عالمية لا تجد من ينقص من عالميتها إلا فرنسا، وربما أوروبا، إنهم أنصاف حمقى يملكون كامل عقولهم، ولكن بدون أن يتوفروا على ذرة من التمييز بهذه العقول. وأنهي مقالي بثلاث ملاحظات، وقبل ذلك كيف يمكن تفسير الانبثاق العنيف داخل محيط "بوش" لهذا الإحساس العميق بأن أمريكا دائما على صواب، وبأنها الخير كله؟ ذلك بسبب مجموعة من العوامل، ومنها بالدرجة الأولى 11 شتنبر، ولكن كذلك بسبب عدم اهتمام الآخرين، وخصوصا الأوروبيين بشؤون العالم، وبقضايا الدفاع، وذلك عندما يأخذ علينا الأمريكيون كوننا نستفيد من "أمن حمائي" يجعل منا مدنيين لهم، بل ويجعل من العالم إقطاعا تابعا لأمريكا التي توفر له الأمن، فالاستقلال له ثمن، ولا يكفي غدا التصفيق للموقف النبيل ل"جاك شيراك"، بل يجب قبول دفع الثمن للاستفادة من إطالة أمد نتائج الموقف. ثم إن هؤلاء الرجال الذين ألغوا لغة الخشب من خطابهم لهم فضل إنذارنا مسبقا بهشاشة التكتلات في عالم ما بعد الحرب الباردة، >إن المهمات هي التي تحدد التكتلات وليست التكتلات هي التي تحدد المهمات<، حسب تصريح "بول وولفويتس"، والجغرافية الأوروبية والأطلسية الجديدة المنبثقة عن الشتاء الأممي الذي تمناه مؤخرا، هي الدليل على ذلك فمن كان بإمكانه، على سبيل المثال، أن يتصور قبل ستة أشهر من الآن أنه سوف يكون هناك محور سوف يتشكل من باريس وبرلين وموسكو؟ إنه سؤال مركزي، وهذا المحور هل هو قابل للاستمرار؟ سؤال مركزي آخر. وأخيرا علينا وبكل استعجال أن نقرأ بل وأن ندرس جيدا ما أكد عليه "فاسنر" و"فايس" في كتابهما الذي ذكرناه في بداية هذا المقال، حتى نفهم ما الذي يجري في واشنطن، والذي يعنينا بالدرجة الأولى، فبعد سنتين من الآن سوف يكون "بوش" ربما قد خسر الانتخابات، ويكون المنظرون "الويلسونيون" المغرضون قد غادروا مسرح السياسة، ولكن قبل ذلك، لنر جيدا من هم وماذا يمثلون بالنسبة لمجموع العالم وبالنسبة للقيم الدولية، وبالنسبة لمكانة الغرب في العالم، إنهم عبارة عن أسلحة دمار شامل. ترجمة إبراهيم الخشباني ذاهبون إلى حتفهم بأنفسهم -بقلم جون مارسيل بوجرو رئيس تحرير لونوفيل أوبسرفاتور (نشره في صحيفة لا ريبوبليك دي بيريتي) إن السرعة تتسبب في الكوارث. وهكذا وفي اليوم السادس من بدإ العدوان، أصبح الجميع يتمنى أن تنتهي الحرب في أقرب وقت، ناسيا أن حرب الكويت في سنة 1991 قد دامت شهرين، واحد منهما في قصف بغداد بالقنابل، وناسيا كذلك أن الحملة على أفغانستان قد شغلت الفرق الغازية لمدة أربعة أسابيع. إن القادة الأمريكان عندما كانوا يتحدثون عن حرب خاطفة، قد وقعوا هم أنفسهم ضحية هذا الدين الجديد والعصري الذي اسمه السرعة، عندما وعدونا بأن نظام صدام سوف ينهار بسرعة، وبأن فيالقهم سوف يستقبلها العراقيون بالورود على أساس أنها فيالق محررة من الدكتاتور. ولكن أمام المقاومة غير المنتظرة التي أبداها هذا الجيش العراقي الذي قدموه لنا على أنه جيش تم إضعافه بالكامل، وأن معنوياته منهارة تماما، فإن التحالف الأنجلو أمريكي اضطر إلى تغيير خططه، بعد أن لم تكن خمسة أيام متتالية من القصف العنيف، وبعد أن لم تفلح الآن صواريخ "كروز" في تقويض أسس النظام العراقي. أما في ما يخص الشعب فإنه لم يستقبل الأمريكيين كمحررين بل كغزاة مستعمرين، والشيعة الذين قدموا لنا على أساس أنهم ضحايا صدام لم ينتفضوا كما كان يتوقع الأمريكان. إن المعركة الحاسمة تبقى إذن هي معركة بغداد، إنها المعركة التي كان صدام حسين قد وصفها منذ مدة بأنها ستكون "ستالينغراد" الأمريكيين، على غرار معركة "ستالينغراد" التي أعلنت عن نهاية النازيين. لقد اختار الأمريكيون إذن بأن يتوجهوا إلى حتفهم بأنفسهم، عندما تفادوا مدن الجنوب التي واجهت فيها جيوشهم مقاومة لم تكن تنتظرها، تاركين بذلك صفوفهم الخلفية دون حماية. إنها خطة تنطوي على مجازفة كبيرة لدرجة أن صدام حسين قد غير بشكل جلي من استراتيجيته، متخليا عن الحرب الثابثة ليعطي أكثر ما يمكن من الاستقلالية في التحرك لجيشه الذي كان منقطعا ومنزويا في الأزقة، حيث كان يبحث عن إثارة حرب المدن. في الوقت الراهن توجد طلائع الجيوش الأنجلو أمريكية على أقل من مائة كلمتر من العاصمة بغداد. فكيف سوف يتصرفون؟ هل سيحاصرون المدينة مع الاستمرار في قصفها بالقنابل؟ وذلك مع ما يعني ذلك من مجازفة بخسائر جد ضخمة في الأرواح المدنية، مع ما لذلك من ردود فعل على الرأي العام الأمريكي والدولي. لحد الآن فإن صدام حسين وهو يعيد يوم الإثنين الماضي الخطاب الشهير الذي ألقاه "ستالين" قبيل معركة "ستالينغراد" قد سجل عدة نقط هامة لصالحه. ولقد كتبت "الوول ستريت جورنال" وهي الداعم الإعلامي الرئيسي لجورج بوش بأن التغطية التلفزيونية للحرب قد انتقلت من حملة "الصدمة والذهول" كما سمى بوش حربه إلى رؤية ل"الدم والجزع". والأسوأ هو ما سيأتي. جان مارسيل بوجرو ترجمة: إبراهيم الخشباني