العراق لم ينهر، ميناء أم قصر الصغير الذي لم يبق منه إلا شارعان بعد أخذ الكويت نصفه يقاوم لليوم الرابع، بينما تستعصي البصرة على المحاولات الأمريكية البريطانية اليائسة لاقتحامها. الحرب النفسية الأمريكية على العراق بدأت تتقهقر مهزومة على صخرة الصمود العراقي. فالرئيس العراقي لم يقتل، ونائبه طه ياسين رمضان الذي من المفترض أنه في الدار الآخرة ظهر في مؤتمر صحافي علني أمام أجهزة الإعلام العالمية. آلة الدعاية الأمريكية قالت إن الفرقة الواحدة والخمسين في الجيش العراقي استسلمت بالكامل لقوات التحالف، ليفاجئنا قائدها بالظهور على شاشة الجزيرة، من قلب مدينة البصرة، محاطاً بالعشرات من جنوده. توقعنا أن تعتمد الآلة الدعائية العراقية المتخلفة و غير الحضارية على المبالغة في تضخيم خسائر الأعداء، ولكن ما حدث هو العكس تماماً، جاء الأداء الإعلامي العراقي على غير العادة متميزا. يعتمد على الحقائق المجردة، والمعلومات الدقيقة. العراق يقول إنه أسقط طائرة معادية، البنتاغون يكذّب، فيرد العراق بتقديم طيارين جري أسرهم. يعلن طه ياسين رمضان في مؤتمر صحافي أنه جرى أسر مجموعة من الجنود الأمريكيين في "سوق الشيوخ", رامسفيلد يكذّب الخبر، مرة أخرى، فيقرر العراق ظهور هؤلاء على شاشات التلفزة، فيعلن متحدث باسم البنتاغون ان عشرة جنود أمريكيين في عداد المفقودين. الإدارة الأمريكية تقول إنها تتجنب المدن حتى لا توقع خسائر في المدنيين، فتقدم لنا قناة الجزيرة صوراً مفجعة لعشرات الأطفال والمدنيين العراقيين الذين قتلتهم القنابل العنقودية الأمريكية. العراقيون قالوا لنا إنهم سيبيضون وجوه العرب هذه المرة، ويبدو أنهم يعنون ما يقولون، فها هم يصمدون لليوم الرابع ويسقطون طائرات ويأسرون جنوداً، ويوقفون التقدم الأمريكي. والأهم من كل هذا تلك الوحدة الوطنية الرائعة التي انعكست في جميع المدن العراقية، حيث أثبت الأشقاء الشيعة، وهم الأغلبية، أنهم أكثر وطنية من الجميع، ويتمتعون بولاء عظيم لوطنهم، على عكس ما حاولت بعض فصائل المعارضة العراقية المرتبطة بأمريكا تصويرهم. الشعب العراقي تجاوز جزءاً كبيراً من المحنة، مثلما تجاوز عقدة الخوف من الأمريكان، وأصبح أكثر إيمانا بنفسه وقدراته، الأمر الذي سيضع الأمريكان وحلفاءهم البريطانيين في ورطة كبيرة. الدلائل تشير إلى أن فيتنام العراقية قد تكون بدأت بالفعل وأن الرئيس الأمريكي جورج بوش سيواجه أياما عصيبة للغاية. فمعظم الأسرى الذين عرضهم التلفزيون العراقي هم من تكساس بلد الرئيس نفسه. الانتصار المعنوي الذي حققه العراقيون بصمودهم الأسطوري أمام الآلة العسكرية الأمريكية الجبارة ستكون له آثار عظيمة في الشارع العربي، مثلما سيشكل هزة للأنظمة العربية الرسمية التي تواطأت وتحالفت مع العدوان الأمريكي. ومثلما أعاد الجندي المصري الثقة إلى العرب جميعاً بقتاله البطولي في حرب رمضان عام 1973، بعد أن انهارت هذه الثقة بسبب هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967 المخجلة، ها هو الجندي العراقي يمسح الآثار السلبية لاستسلام الجنود العراقيين المهين أثناء حرب الكويت عام 1991. لاشك أن الأنظمة العربية الفاسدة والديكتاتورية تلقت أنباء الصمود العراقي بحزن كبير وخيبة أمل أكبر، فالرئيس المصري حسني مبارك عميد الزعماء العرب قال إنه كان يأمل أن تكون هذه الحرب سريعة مثلما وعده الرئيس بوش، ولكنها لا تبدو كذلك. ومن المفارقة أن الكويت التي ينطلق من أرضها العدوان الأمريكي قالت إنها تصر على أن يتضمن بيان وزراء الخارجية العرب فقرة تدين العدوان العراقي علىها، وأيدتها الدول الخليجية الأخرى. ولا نعرف ما هو، وأين هو العدوان العراقي على الكويت، وكيف تؤيد دول الخليج الأخرى هذه الأكذوبة المخجلة. ما يثير الحنق أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الذي كان يتصرف كالطاووس قبل بداية العدوان، اعتبر عرض العراقيين لصور الأسرى والقتلي الأمريكيين مخالفاً لمعاهدة جنيف بشأن معاملة الأسرى، وطالب الحكومة العراقية باحترام هذه الاتفاقية. تري أليس قتل سبعين عراقياً مدنياً في قلب البصرة بالقنابل العنقودية يتطابق مع بنود هذه المعاهدة؟ وهل قصف بغداد بالقنابل الأضخم يتناغم مع القانون الدولي؟ الصمود العراقي أعاد الاعتبار للمواطن العربي، مثلما أعاد الثقة لقدراته، ووضع العرب والمسلمين على أعتاب مرحلة جديدة، لعلها نهضة، لعلها انتفاضة كرامة، لعلها بداية النصر. العراقيون لم يستقبلوا القوات الأمريكية الغازية رقصاً على أنغام الدفوف، وبباقات الورود والرياحين، مثلما كان يردد مستشارو البنتاغون من العراقيين المتأمركين. وهذا في حد ذاته مؤشر لمدى الورطة التي ورط فيها هؤلاء الرئيس بوش وتابعه بلير ب نصائحهم و خبراتهم العظيمة! عبد الباري عطوان رئيس تحرير صحيفة "القدس العربي