تداولت الصحافة الوطنية خلال الأسبوعين الأخيرين خبرين يتحدث الأول عن "دايفوس" والوفد الهام الذي قاده رئيس الحكومة وضم فيمن ضم وزير الخارجية والوزيرة المنتدبة لديه. أما الخبر الثاني فقد أوردته الصحافة تحت عنوان "الحرب الدبلوماسية المستعرة بين المغرب و"البوليساريو" على خلفية زيارة روس". وفي تفاصيل الخبر يتضح أن الأمر يتعلق بغياب ما أسماه المقال بالدبلوماسية الرسمية عن حضور ندوة نظمتها جهات جزائرية في جامعة لندن ببريطانيا العظمى. بالعودة إلى موضوع الندوة نجد أن الجزائر المحايدة جداً في نزاع الصحراء والتي ليس لديها طبعاً أية مصالح في هذا الصراع الإقليمي، وفي غمرة رياح الربيع الديمقراطي التي تضرب المنطقة المغاربية والعربية، وفي خضم الحروب الإثنية التي تهدد وجود دول أفريقية كثيرة وأولها جارتها الجنوبية مالي، وما يرتبط بكل هذه النزاعات من ظاهرة الدول الفاشلة، وانتشار كثيف للأسلحة في الساحل والصحراء وازدهار لشبكات تهريبها، وتناسل للجماعات المسلحة والمافيات التي تتاجر في كل الممنوعات، في هذه الظروف بالذات لم تجد جارتنا موضوعاً يستحق الاهتمام إلى درجة تنظيم ندوة أكاديمية في عاصمة الضباب، غير موضوع الصحراء المغربية. لم تنشغل الآلة الدبلوماسية للجارة الشرقية لا بأحداث غرداية التي سقط فيها أكثر من خمسة قتلى خلال الأسبوعين الماضيين بسبب الاقتتال الدائر بين المزابيين الأمازيغ من أتباع المذهب الإباضي "الخوارجي"، وبين العرب الوافدين على المنطقة من أتباع المذهب المالكي السني. وهو صراع يحمل في ثناياه بذور فتنة بإمكانها أن تعصف بما تبقى من النظام العسكري الحاكم، والذي يعيش حرباً أهلية منذ الانقلاب على صناديق الاقتراع في العام 1991 التي أعطت الفوز لإسلاميي "الفيس". ثم تلتها العشرية السوداء التي أتت على الأخضر واليابس وحصدت ما لا يقل عن 200 ألف قتيل وحوالي 18 ألف مختطف مجهولي المصير. بل إن الجارة المحايدة، لم تشغلها عن الصحراء المغربية حتى الحالة الانتقالية التي يعيشها قصر المرادية، بسبب شيخوخة وشلل الجالس على كرسيه من جهة. وبسبب اللغط الذي يثيره ترشحه لولاية رئاسية رابعة لا يسمح بها الدستور الحالي. وهو ما أثار امتعاض البقية الباقية من النخبة السياسية المستقلة. حيث أعلنت بعض فصائلها مقاطعة مسرحية الانتخابات، كما هو الحال مع حركة "حمس" الإسلامية التي شاركت في حكومات سابقة، وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ذو التوجهات العلمانية والأمازيغية. ودعك من موقف جبهة الإنقاذ المحظورة وبقايا الجماعات المقاتلة التي صدرت أنشطتها "الجهادية" نحو الساحل والصحراء، فهذه جماعات محظورة "قانونا" وبالتالي فلا مكان لها في حسابات العملية السياسية الجارية. وبالنظر إلى السياسة الخارجية لجارتنا "الشعبية الديمقراطية" خلال أربعين سنة من الصراع الدبلوماسي، مع المغرب، بشقيه العسكري والسياسي، نلاحظ دون كثير عناء أنها استطاعت أن تكيف دبلوماسيتها مع تقلب المناخ السياسي داخلياً وخارجياً. إذ نقلت المعركة من الاعتراف بالكيان المصطنع إلى ساحة حقوق الإنسان واستغلال الثروات وغيرها. مستغلة كلما تجده على الطريق من شجر أوحجر، بدءاً بقضية "أمينتو" والصور المفبركة مع "أنتينا تريس"، وصولاً إلى كديم إيزيك، ومروراً بحادثة إنزال العلم من فوق القنصلية وهلم جراُ. "خفة" دبلوماسية وقدرة على المناورة لا مثيل لمفعولها على الرأي العام الغربي، إلا ما يقوم به السحرة داخل السيرك من أعمالٍ تقلب الحقائق، ولكن لا يملك الجمهور غير التصفيق لها. في المقابل نجد آلتنا الدبلوماسية غائبة عن ندوة لندن، كما ورد في الخبر المشار إليه أعلاه، عوضاً عن الحضور للدفاع عن الشرعية وتفنيد أطروحات الجارة الغيورة جداً على حقوق الإنسان خارج حدودها الموروثة عن الاستعمار. والمنافحة حتى الجنون عن تقرير مصير الشعوب خارج خريطتها الموروثة عن الاستعمار كذلك. هل كان ضرورياً حضور وزيرين في الخارجية إلى "دايفوس"؟ علماً أن المنتدى ذو طبيعة اقتصادية بالدرجة الأولى. ألم يكن حضور وزير واحد كافياً؟ ولا حتى حضور رئيس حكومة كان كافياً؟ أم أننا أمام دبلوماسية جديدة اسمها الدبلوماسية الاستعراضية في مواجهة دبلوماسية الكراهية ! هل قدر دبلوماسيتنا أن تكون استدراكية أو إطفائية؟ تأتي دائماً بعد إشعال النيران، وتضطر دائماً إلى استرجاع القلاع "الصديقة"، مع كل التحفظات على الصداقة، بعد أن تسقط في غواية اللوبيات النفطية، وشرك "التقارير الإدارية التي يحررها موظفون" يسهل إغراؤهم على آلة لا ينقصها زيت أو غاز.. يقول قيدوم الدبلوماسية الأمريكية هنري كسنجر في خاتمة كتابه "الدبلوماسية"»..نَشْر المُثل الأمريكية يتحقق من خلال تراكم النجاحات « ..، وكلمة السر هي تراكم النجاحات. وهذا بالضبط ما قامت به آلة الخصوم خلال أربعة عقود دون كلل أو ملل. لا تفوت فرصة لتسجيل النقاط وإن تعلق الأمر بحادث عابر كإنزال العلم ! فكل الضربات "مشروعة" في الحرب على المغرب حتى وإن تعلق الأمر باستبعاد المغرب من المشاركة في المنتدى الدولي لمحاربة الإرهاب الذي انعقد في الجزائر من 4 إلى 6 فبراير، بشكل فج أثار حفيظة وزيري خارجية تركيا والولايات المتحدة الذين أصدرا بياناً يندد بإقصاء المغرب وتجاوز الدولة المضيفة لصلاحياتها.. أمر مذهل أن نلاحظ كل هذه الجبهات "القتالية" ضد المغرب التي تفتحها الجزائر "الشقيقة"، بمعناها الدارج. معارك لا تنتهي في البرلمان الأوربي بستراسبورغ بمناسبة مناقشة اتفاقية للصيد البحري، او اتفاق للتنقيب في الشواطئ الجنوبية للمملكة. اشتباكات بمجلس حقوق الإنسان بجنيف. مواجهات بنيويورك والبيت الأبيض والكونغرس بمناسبة تقديم مسودة لتوسيع صلاحيات "المنورسو". وآخراً وليس أخيراً مناورات تقودها السيدة زوما بأديس أبيبا لإقحام الإتحاد الإفريقي من جديد في ملف الصحراء من بوابة الأممالمتحدة. وما كان من أمر المغرب مرة أخرى، إلا أن يسعى إلى دورة استدراكية للامتحانات.. من خلال رسالة موجهة لمجلس الأمن الدولي مؤرخة في 30 دجنبر الماضي، يُذَكّر فيها بأن المنظمة الإفريقية تعترف بالكيان الوهمي، وبالتالي فلا يمكنها أن تكون الخصمَ والحكمَ كما يقول أبو فراس الحمداني. وعوداً على بدء، الدبلوماسية ليست بحاجة إلى نعت أو بدل إذا مورست باحترافية. فالمهنية تغنيها عن وسمها بالهجومية أو الاستباقية أو العمومية أو غيرها من الأوصاف التي تناسلت حتى التبست. ما يهم هو الوعي باستراتيجية الخصم والتعامل معها لإبطال مفعولها وفقاً "لقواعد اللعبة" في العلاقات الدولية كما يسميها مارك أمستيوز، أستاذ العلوم السياسية بجامعة "ويتون" في كتاب يحمل نفس العنوان. قد نشكر الجارة على الندوة التي نظمتها في لندن إذا أخذت دبلوماسيتنا الثور من قرنيه. لأنها قد فتحت لنا الأبواب على مصراعيها لتنظيم سلسلة من الندوات الدولية حول حقوق الأقليات الدينية والعرقية في ظل ما تتعرض له الطائفة الإباضية بغرداية. وأخرى حول حق تقرير المصير لشعب الطوارق، وحق شعب القبائل في إقامة دولة مستقلة. كما أن مرافعات الجارة بمجلس حقوق الإنسان بجنيف يفتح المجال لطرح المغرب في المنتظمات الدولية لملفات ربع مليون من القتلى والمختطفين مجهولي المصير خلال العشرية السوداء، وملف التهجير القسري الذي طال 45 ألف عائلة مغربية طردت من الجزائر سنة 1975، في سابقة تعد جريمة مكتملة الأركان ضد الإنسانية. لقد أضاع المغرب عدة فرص لإجبار جارتنا "الشقيقة" على رفع اليد عن قضية وحدتنا الوطنية، كان أهمها الانقلاب العسكري على الديمقراطية يناير 1992. وعليه اليوم ألا يضيع ما تبقى من الفرص التي تتيحها الرياح العاتية للربيع الديمقراطي التي تضرب طوقاً على الجارة إذا أحسنا الاستفادة منها، بعيداً عن كل ارتجالية أو استعراضية.