أكدت التطورات في مصر أن الثورة لم تنتهي بإسقاط الفرعون الذي حكم البلاد بالحديد والنار. لكنها تكشف أن سنن التاريخ تقضي بأن التحول في بنيات الدولة في الاستجابة لتطلعات المجتمع تتطلب وقتا أكبر من المعتقد حتى لو نزلت الشعوب إلى الشوارع. دخل الدكتور محمد مرسي قصر الجمهورية بعد أول انتخابات ديمقراطية ونزيهة، وسجل اسمه في ذاكرة العالم كأول رئيس مدني ينتخبه الشعب في أول انتخابات حرة، بالمقابل سجل التاريخ في التجربة المصرية أن الفساد تحصن بالقضاء، وأن بقايا النظام السابق تحالفت مع العلمانيين ثوار أمس، وأن مدفعية الإعلام وجهت فواهاتها نحو الإسلاميين. ورغم أن الثورات تأخذ وقتا لصناعة التحول وتمر بمحطات ارتدادية، وأن الناس قد يرفضون بعض الوجوه الجديدة الطلائعية، وقد يقع الحنين للأشكال التقليدية، إلا أن الصادم في التجربة المصرية أن تدوس قدم العسكر ثورة 25 يناير في ظرف قياسي ويتخفى تحت جبة ما سمي نسخة ثانية للثورة في 30 يوليوز ويعزل الرئيس الشرعي ويلغي الدستور ويحل المؤسسات الدستورية .. أنه انقلاب على الشرعية اختارت «التجديد» إعادة كتابة قصته في حلقات خلال رمضان المبارك لما لها من دلالات كثيرة وعميقة. قبل أن يطلق البوعزيز شرارة الانتفاضة في تونس، لم يكن أحد من المصريين المقهورين يتخيل إسقاط رئيس لم ترفع سوى صورته في أنحاء الجمهورية وكأن أرحام الأمهات لم تلد غيره ليحكم ويسود. غير أن الثورة التي انفجرت فجأة في تونس وفرار بن علي قربت الحلم لدى الشباب الطامح لمستقبل أفضل، وقادته إلى أن يجعل خلافة الابن لوالده الفرعون في خبر كان.. بدأت الدعوات في فضاءات التواصل الاجتماعي، وحددت ساعة الصفر، وخرج الآلاف للموت من أجل الحرية. رفعوا شعارات تلو أخرى، وارتفع سقف المطالب مع كل شهيد، وأشعل موكب الشهداء الحماس والتهبت الميادين حتى رفع «يسقط يسقط حسني مبارك». بنهاية الأسبوع الأول من الاحتجاج احتشد مليون متظاهر في ميادين الجمهورية، ولم يتخلو عن مطلب الرحيل رغم إعلان الفرعون أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية، لكن بعد 18 يوما سلم سلطاته كاملة للقوات المسلحة، وعلق الدستور وحل البرلمان، مخلفا ورائه 85 قتيلا. بعد تنحي الفرعون بثلاث أسابيع استفتي الشعب على مراجعة الدستور فنال موافقة 77.2 في المائة من الناخبين، وهو رقم لم يعتده المصريون في صناديق الاقتراع، إذ ألفوا فقط نسبة التسعة والتسعين أو أقلها بقليل ! حل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم ووضع مبارك في الحبس الاحتياطي في مستشفى في شرم الشيخ شرق سيناء. اختلفت الدوافع والسياقات لكن ضلوع الفلول في أعمل العنف من الدرجة الخطيرة كان هو المهيمن، كان أخطرها اللعب على ورقة الطائفية، وتم تسويق أن مصر دخلت مرحلة الفوضى واللاستقرار بتنحي مبارك. في السابع من ماي 2011 اندلعت مواجهات بين مسلمين وأقباط أوقعت 15 قتيلا وأكثر من مئتي جريح. وفي نهاية يونيو اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة ومتظاهرين في القاهرة أوقعت حوالي ألف جريح، ثم في 23 يوليوز سقط أكثر من 200 جريح في العاصمة في اشتباكات بين متظاهرين وأنصار الجيش. وفي 25 أكتوبر سقط تسع قتلى وأكثر من 300 جريح في اشتباكات بين أقباط وقوات الأمن في القاهرة، وسقط 42 قتيلا على الأقل في خمسة أيام (بين 19 و23 نونبر) خلال قمع رجال الشرطة آلاف المتظاهرين المطالبين بإنهاء سلطة المجلس العسكري. وفي فاتح فبراير من سنة 2012 سقط 74 قتيلا في أعمال عنف تلت مباراة كرة قدم في بور سعيد، مما أدى إلى تسيير تظاهرات في البلاد خلفت 15 قتيلا. بعيدا عن أجواء العنف، حصد الإسلاميون في 28 نونبر ثلثي مقاعد مجلس الشعب، حوالي نصفها عادت للإخوان المسلمين فقط، غير أن ذلمك جلب لهم متاعب كثيرة، فقد تحالفت مؤسسات الدولة بأكملها مع الفلول والأطراف والتيارات التي فشلت في إقناع الشعب ببرنامجها ضد الإخوان، خاصة بعد أن اكتمل المشهد بإعلان محمد مرسي فائزا في الانتخابات الرئاسية في 30 يونيو وأدائه القسم كأول رئيس ينتخب بالاقتراع الحر وأول رئيس اسلامي وأول رئيس مدني يترأس البلاد.بدخول مرسي إلى قصر الجمهورية وجد أن السلطة التشريعية بيد المجلس العسكري بعد أن قررت المحكمة الدستورية العليا حل مجلس الشعب، فكان من ضمن ما بدأ به هو أن أبعد المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع الذي كان رئيسا بحكم الواقع، وألغى الصلاحيات السياسية الواسعة التي كان يتمتع بها العسكريون. مع مرور الأيام، بدأت متاعب الإسلاميين في الحكم رغم أنهم نجحوا في إقرار ما يريدون، لعل أهمها إقرار الدستور الذي دافعوا عنه في استفتاء جرى في جو متشنج بعد أسابيع من التظاهرات المتنافسة التي أدت أحيانا إلى مواجهات بين المؤيدين والمعارضين.