من علامات إيثار الآخرة التقلل من الدنيا روى الترمذي في سننه وحسنه الألباني عن عبد الله بن مسعود رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا رسول الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس، وما وعى، وتحفظ البطن، وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا. يعني: من الله حق الحياء». ومن علاماته استواء المدح والذم عند العبد، لأن من عظمت الدنيا عنده اختار المدح وكره الذم، وقد يحمله هذا على ترك كثير من الحق خشية الذم، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحق، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه واهتم برضا الله تعالى، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله». وهذا يرجع أساسا إلى أن الزاهد حقيقة في الدنيا هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها، ولهذا يقال: «الزاهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس فهو الذي يؤثر الآخرة على الدنيا». ومن علامات إيثار الآخرة على الدنيا أيضا، قصر الأمل في الدنيا، لأن طول الأمل يقتضي إيثار الدنيا ومحبة البقاء فيها ولو على حساب دينه وقيمه، ومن قصر أمله لم يكن من الحريصين على الدنيا ممن قال الله تعالى فيهم: «قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين» سورة البقرة: 95. أي أشد الناس رغبة في طول الحياة أيًّا كانت هذه الحياة من الذلَّة والمهانة. آثار التنافس على الدنيا وللتنافس غير المشروع على الدنيا آثار ضارة، وعواقب مهلكة دنيوية وأخروية: فمن آثارها، القلق والاضطرابات النفسية، ذلك أن من آثر الدنيا سيطرت عليه، وابتلي بجمعها والتنافس فيها بغير مبالاة بضوابط الشرع وحدود الله فيصاب لا محالة بالقلق والاضطراب النفسي، خوفا من أن تضيع عليه هذه الدنيا، بل خوفا من ألا يحصل الكثير منها، ويحق فيه قول الحق تبارك وتعالى: «وَمَنَ اعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» سورة طه 122. ومن آثارها، إضاعة حقوق الأخوة، لأن من آثر الدنيا على الآخرة سيقع حتما في الظنون الكاذبة، وما تؤدي إليه من تتبع العورات والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء والظلم وهضم الحقوق، والمزايدة على أخيه المسلم أو أخته المسلمة في بيع وشراء أو نكاح، ومن ثم الخصومات والعداوة والكراهية والبغضاء. ومن جعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، وسعى إلى مباراة الآخرين وسباقهم في تحصيلها بغير ضابط الحلال والحرام، ينصرف لا محالة عن أعمال الآخرة، وربما لا يجد من الأوقات والتفكير بما يعينه على إتيان هذه الأعمال. ولعل هذا ما فقهه ذلك العالم الجليل أبو حازم الأعرج وقد سأله سليمان بن عبد الملك قائلا: «يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فأجاب: «لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب»( العاقبة في ذكر الموت لابن الخراط الإشبيلي). الطريق إلى إيثار الآخرة على الدنيا اليقين التام بعد الأخذ بالأسباب المشروعة بأن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير، وأنه مهما أتعب المرء نفسه، وتكالب على الدنيا، فإنه لن يصل إلى شيء فوق ما قسم الله. والبصيرة التامة بحقيقة الدنيا، وأنها ليست غاية وهدفا، وإنما هي وسيلة لغاية وهدف. وأن ينزع نفسه من الوسط الحريص على الدنيا ويلقي بنفسه في وسط من يريدون الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم المشروع من الدنيا. وأن يوقن أنه مهما حصل الإنسان من الدنيا فلن يشبع أبدا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وأن يصحح نظرته إلى إقبال الدنيا عليه بحيث لا يراها ميزة وتشريفا، وإنما يراها اختبارا وامتحانا يكون همه كيف ينجح وينجو ويرى ذلك فتنة يخاف على نفسه منها. وأن يداوي المرء نفسه من آفات الإعجاب بالنفس والغرور والتكبر. وأن يخفف من طول الأمل ويتذكر الموت والآخرة، وأحوال سكرات الموت، والقبر. وأن يمعن النظر في سيرة سلف هذه الأمة.