أجمعت كلمة المحدثين على أن الحديث المتواترَ أقلُّ عددا من أحاديث الآحاد، بل ذهب بعضهم إلى نُدْرَتِهِ وصعوبةِ وجودِ أمثلةٍ له، قال ابن الصلاح(643ه) رحمه الله: "ومن سُئل عن إبراز مثالٍ لذلك فيما يُروى من الحديث، أعياه تَطَلُّبُه: ثم قال: "نعم حديث (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) نراه مثالا لذلك، فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجمّ، وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم". ولعل النزاع في قلته أو كثرته، أليق بأحد صنفيه، وهو المسمى بالتواتر اللفظي، وهو الذي تواترت ألفاظه بين الرواة، فاجتمعوا على كل لفظة فيه، ممّا يُستبعد معه احتمال روايته بالمعنى من قِبَلِهم. ومن أمثلة هذا الصنف عند من نازع في القلة، زيادةً على الحديث الآنف الذكر، أحاديثُ كثيرةٌ أخرى، قال الكتاني في "نظم المتناثر من الحديث المتواتر": "منها (حديث الحوض) من رواية نيّف وخمسين صحابياً، و(حديث المسح على الخفين) من رواية سبعين صحابياً، و(حديث نضر الله امرءا سمع مقالتي) من رواية نحو ثلاثين، و(حديث نزل القرءان على سبعة أحرف) من رواية سبع وعشرين، و(حديث من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) من رواية عشرين، وكذا (حديث كل مسكر حرام)، و(حديث بدأ الإسلام غريباً)، و(حديث سؤال منكر ونكير)، و(حديث كل ميسر لما خلق له)، و(حديث المرء مع من أحب)، و(حديث إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة)، و(حديث بشر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، كلُّها متواترةٌ، في أحاديث جَمَّةٍ". ونقل عن ابن الجوزي(597ه) قوله: "تتبعت الأحاديث المتواترة فبَلَغَتْ جملةً، منها: (حديثُ الشفاعة)، و(حديث الحساب)، و(حديث النظر إلى الله تعالى في الآخرة)، و(حديث غسل الرجلين في الوضوء)، و(حديث عذاب القبر)، و(حديث المسح على الخفين)" اه. ونقل عن الشيخ التاودي(1209ه) في "حواشيه على الصحيح" نَظْماً لبعضها حيث قال: مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهاذي بعض قلت: وللمتواتر صنفٌ ثان وهو المتواتر المعنوي، أخذاً من المعنى، أي الذي تواتر معناه في كثير من الأحاديث المروية، وإن لم يُتَّفّق فيه على لفظٍ واحدٍ يُروى به ويُؤَدِّي ذلك المعنى. ومن أمثلته حديث رفع اليدين في الدعاء، فقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في الدعاء في مواقف مختلفة ووقائع متعددة. ومنها أحاديث نزول عيسى عليه السلام. قال الكتاني في نظم المتناثر: "وبالجملة فالمتواتر من الحديث كثير جداً، إلا أنَّ أغلبَهُ تواتُره معنوي، وأكثرُ الأمور المعلومة من الدين ضرورة متواترةٌ معنى، ومُراد العلماء حصرُ اللفظي، لأن الثاني لا يكاد ينحصر".