منذ أزيد من خمسين سنة، شكلت جمعية الأعمال الاجتماعية للطفولة ومراكز الاصطياف، والجمعية الرياضية للبريد والتعاضدية العامة، النواة الأولى للعمل الاجتماعي بقطاع البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية. ومع تطور نشاط هذه الجمعيات وظهور حاجات جديدة للبريديين في المجال الاجتماعي، إلى جانب التزايد المستمر لعددهم، اقتضى النظر أن تخلق أداة جديدة تقوم بمهمة التنسيق وتتولى أداء بعض الخدمات الاجتماعية التي لا تدخل ضمن اختصاص الجمعيات الموجودة على الساحة، الشيء الذي أدى إلى تكوين لجنة الأعمال الاجتماعية سنة 1964 كجمعية بمثابة اتحاد لمختلف هذه الجمعيات. في مسيرتها التاريخية، استطاعت هذه اللجنة أن تقتني العديد من الممتلكات مثل مراكز للاصطياف وشقق وفيلات ومصالح للصحة وعيادات لطب الأسنان ومقتصديات ودور للحضانة ونواد رياضية، وغير ذلك. وعندما حلت الحكومة سنة 1998 المكتب الوطني للبريد والاتصالات وعوضته باتصالات المغرب وبريد المغرب ووكالة التقنيين، طرح إشكال توزيع ممتلكات لجنة الأعمال الاجتماعية. الجمود الهيكلي للعمل الاجتماعي باتصالات المغرب تبعا للفصل 108 من قانون 96/24 المتعلق بتحرير أو خوصصة قطاع الاتصالات بالمغرب، فإن كل مؤسسة جديدة منبثقة عن المكتب الوطني للبريد والاتصالات ستضم جمعياتها الاجتماعية الخاصة، وأن الممتلكات ستنقل إليها اعتبارا لعدد المستخدمين في كل مؤسسة، ودون أن تترتب عن عمليات التعيين الجديدة رسوم أو ضرائب. وقد تولت لجنة مكونة من ممثلي المكتب الوطني المنتهية صلاحياته وممثلي الإدارات الثلاث الجديدة، وكذلك من رؤساء الجمعيات الاجتماعية للبث في الموضوع. وفي نظر الإدارة الوصية، فإن تقسيم الممتلكات لا يمكن أن يتم إلا بعد أن تتأسس وتنتخب الجمعيات الثلاث الجديدة، وهو ما رفضته آنذاك النقابة الوطنية للبريد والاتصالات التابعة للكونفدرالية، مطالبة في ذات الحين بجرد وإحصاء كل الممتلكات والحفاظ عليها مجتمعة للاستفادة منها بهذا الشكل. إلا أن الجرد طرح عدة إشكالات: فالمكتب الوطني كان قد قام ببناء عمارات فوق عقارات تملكها جمعية الأعمال الاجتماعية. ثم إن الفصل 108 لا يميز بين ممتلكات الإدارة وممتلكات الجمعية. هكذا ظل الوضع مجمدا تحت وطأة ضعف المتابعة وقلة الاهتمام. وبالرغم من عقد إدارة اتصالات المغرب والنقابة المذكورة لاتفاقين اثنين، لازال الجمود هو عنوان المرحلة: فاتفاق 07 أكتوبر 1999 وضع صيغة مستقبلية للعمل الاجتماعي تنطلق من انتخاب جمعية على الصعيد الوطني تتولى جميع الأنشطة التي كانت تدخل في اختصاص الجمعيات سابقا، وذلك على مستوى كل مؤسسة، وفقا لمقتضيات ظهير 1958. وقد تم الاتفاق على اعتبار آخر فبراير 2000كأجل لإنجاز المرحلتين. إلا أن الشهور صارت سنوات، وعاد اتفاق دجنبر 2002 ليتحدث عن الموضوع بصيغة المستقبل من جديد حينما قال: "اتفق الطرفان على إجراء الانتخابات المتعلقة بتأسيس جمعية الأعمال الاجتماعية لمستخدمي اتصالات المغرب داخل أجل أقصاه شهران بعد التوقيع على هذا الاتفاق". ولأن الاتفاق الثاني قد وقع في أواسط دجنبر 2002، فإن انتخاب الجمعية، الذي أجل سنوات عديدة، قد وضع له هذه المرة منتصف فبراير 2003 ليدخل حيز التنفيذ. فهل ستتكرر حكاية التأجيل مرة ثالثة؟. وإلى جانب تعطيل هيكلة وانتخابات لجنة الأعمال الاجتماعية الخاصة بمستخدمي اتصالات المغرب إلى غاية يومه، فإن اتفاق منتصف دجنبر 2002 يبتغي تعويم الموضوع بدعوته "لتكوين لجنة مشتركة للشؤون الاجتماعية، تتألف من رئيس يمثل الإدارة وممثلين بالتساوي عن اتصالات المغرب وممثلين عن جمعية الأعمال الاجتماعية للمستخدمين تقترحهم الجمعية. وتعين هذه اللجنة بقرار من مجلس الإدارة الجماعية لاتصالات المغرب لولاية مدتها سنة قابلة للتجديد. وتقوم اللجنة بإبداء رأيها واقتراحاتها حول القضايا التي تهم الشؤون الاجتماعية بالمؤسسة بصفة عامة، والبرنامج السنوي لميزانية الشؤون الاجتماعية بصفة خاصة". هكذا تظهر رغبة الإدارة في ربح مزيد من الوقت من أجل احتكار تسيير الأعمال الاجتماعية بعيدا عن مشاركة ومراقبة ممثلي المستخدمين. وتتقوى إرادة الاستفراد في التصرف بوضع صلاحيات تدبير الخدمات الاجتماعية وإعداد الميزانيات السنوية في يد هيئة أسمتها الإدارة "اللجنة المشتركة للشؤون الاجتماعية". أما جمعية الأعمال الاجتماعية للمستخدمين فسيقتصر دورها على انتخاب نصف أعضاء اللجنة المشتركة، الذين لن يكون لديهم تأثير على القرارات بما يخدم مصلحة المستخدمين مادامت أغلبية الأصوات هي بجانب ممثلي الإدارة. هذا فضلا عن أن اللجنة المشتركة تعين بقرار من مجلس الإدارة الجماعية. فكل هذه العوامل ستجعل من تلك اللجنة أداة طيعة في يد الإدارة. وإلى جانب تجميد الإطار الذي ستسند إليه أمور تدبير الممتلكات الموروثة، فإن الاتفاقين المذكورين قد أجلا الحسم في مجموعة من الخدمات الاجتماعية الأساسية: فاتفاق 99 تعهد بمساهمة إدارة اتصالات المغرب في تمويل التقاعد التكميلي لموظفيها، وجاء اتفاق 2002 ليضع شرط موافقة الصندوق المهني المغربي للتقاعد على الانخراط. فمتى سيتحقق هذا المطلب إذن؟. منطق التأجيل والتسويف هو الذي تحكم أيضا في جملة من المطالب الاجتماعية الأخرى: فاتفاق 1999 دعا إلى عقد جلسات حوار جديدة للنظر في مطلب التغطية الصحية، واتفاق 2002 أرجأ الأمر من جديد إلى مذكرة مصلحية ستصدر في مستقبل الأيام. وقدم الاتفاق الأول مقترحا (ليس إلا) حول قروض السكن، يدعو الإدارة لكي تبرم عقودا مع المؤسسات المالية المقرضة لتمكين المستخدمين من تقديم طلبات الحصول على قروض، وبنفس سعر الفائدة دون الخضوع للشروط التي كانت سائدة من قبل، وخاصة التنقيط واللجنة المكلفة بالبث في الملفات ولائحة الانتظار. أما اتفاق دجنبر 2002 فتحاشى الحديث عن الموضوع بالمرة. وإذا كان تدبير الخدمات الاجتماعية المشترك مع ممثلي المستخدمين ظل مجمدا ومرهونا بإجراء انتخابات وتعيين لجنة مشتركة ، وهو ما لم يتم عندما كانت النقابة الوطنية للبريد والاتصالات موحدة، فبالأحرى وقد صارت شيعا، فإن نظيرة اتصالات المغرب بفرنسا، "فرانس تيليكوم"، تحقق إنجازات متعددة تساهم في انخراط فعال للشغيلة في إنتاجية الشركة وتحقيق ريادتها العالمية. فهل ستعتبر اتصالات المغرب بحصيلة العمل الاجتماعي خلال عام 2000 لدى زميلتها الفرنسية، والتي سنقدم لأهم محاورها في الفقرة الموالية، وهل ستجد في هذه المعطيات ما يرفع عنها عقم الهيكلة والانتخابات المؤجلة واللجنة المشتركة الطيعة؟؟. دينامية العمل الاجتماعي ب"فرانس تيليكوم"، وعبرة المقارنة اعتمادا على تقرير حصيلة العمل الاجتماعي لسنة 2000 بشركة "فرانس تيليكوم" أنجزه مدير الموارد البشرية السيد "بريسون برنارد"، أمكننا تحديد سياسة اجتماعية ترتكز على المقومات التالية: المراهنة على الحوار النقابي الاجتماعي: تعتمد سياسة التقدم في "فرانس تيليكوم" منذ توقيعها للاتفاق الاجتماعي سنة 1997، على تحسين الأنشطة وتنظيم الزمن المهني. وهو ما تعزز بإمضاء الشركة عام 2000 للاتفاق الوطني حول تنظيم وتهيئة وتخفيض وقت العمل، وذلك في ظل أجواء الإجماع الكبير: فلكي تبلغ هذه النتيجة وقعت الإدارة 377 اتفاقا محليا مع مختلف المنظمات النقابية. فلماذا لا تكون العلاقة بين الإدارة والأطراف النقابية منسجمة، وقد تمكن المعنيون من عقد 2500 اجتماع للجن المفاوضات المحلية والمناقشات النقابية؟. ألا تأخذ اتصالات المغرب العبرة من هذا المنهج، وهي التي وضعت مشروع اتفاق دجنبر لدى الاتحاد النقابي للاتصالات يوم 71 دجنبر 2002، وطلبت منه أن يرده موقعا في اليوم الموالي، وذلك حسب ما جاء به البيان الإخباري الذي أصدرته النقابة؟!. وقد انعكست الآثار الإيجابية للديمقراطية الاجتماعية ب"فرانس تيليكوم" على الانتخابات المهنية، حيث شارك فيها أزيد من ثلاثة أرباع المستخدمين، الذين اختاروا من بين 8500 مرشحا 7 ممثلين لهم بالمجلس الإداري للشركة يشكلون ثلث الأعضاء، كما انتخبوا اللجن الثنائية الوطنية والمحلية. ومن أجل تعميق التواصل الاجتماعي، وضعت إدارة "فرانس تيليكوم" مواقع في الأنترنيت رهن إشارة النقابات الأكثر تمثيلية، من أجل إخبار المنخرطين بالمستجدات المهنية. وسمحت لممثلي الأجراء بالغياب لأسباب نقابية بما مجمله 97ألفا و437 يوما، أو من أجل التكوين النقابي ب 6آلاف و236يوما. كما عقدت مع ممثلي العمال 199 اجتماعا لمصلحة لجن الاتفاقات. وبالرغم من أن جو التعاون والتكامل هو الذي يغلب على العلاقة بين إدارة "فرانس تيليكوم" والنقابات الفرنسية الاتصالاتية، فإن رفع قضايا للمحاكم أو خوض إضرابات، لا يقطع للود صلة، بل يؤسس لثقافة الحقوق العمالية. وهكذا بلغ عدد القضايا التي رفعت للمحاكم على خلفيات نقابية 473طلبا. أما عدد أيام الإضرابات خلال سنة 2000 فهو 30 ألفا و871 يوما. المراهنة على الموارد البشرية: بلغ عدد المستخدمين بالشركة الفرنسية 129 ألفا و 829 مستخدما يتوزع على الشكل التالي: الأطر العليا 15ألفا و132 إطارا عاليا، الأطر 18 ألفا و390 إطارا، وأخيرا 77 ألفا و836 من التقنيين. ويستفيد أغلب هؤلاء من قانون الوظيفة العام 115930، أما الأجراء المنضوون في الاتفاقية الجماعية فيبلغ عددهم 12ألفا و636مستخدما. ومن أجل المحافظة على المكانة الريادية ل"فرانس تيليكوم" على الصعيد العالمي، استمرت الإدارة في الاستثمار في الموارد البشرية قصد تأهيلها والحفاظ على مواكبة المستجدات التقنية الاتصالاتية. وهكذا أنفقت على التكوين المهني 258 مليون أورو (ما يزيد عن 260 مليار سنتيم)، استفاد منها 7117 ألفا و724مستخدما في سنة واحدة، أي 55% من العدد الإجمالي للمستخدمين. وغطت العملية 464 ألفا و776 يوما. ترى ما هي الأرقام التي تنفقها اتصالات المغرب في هذا المجال؟. ولماذا تراهن على المغادرة الطوعية للعمال عوض تأهيلهم مهنيا وتقنيا بشكل يحافظ على استقرارهم الوظيفي؟ وهل تريد الشركة أن تصبح فاعلا عالميا يحقق التنافسية الدولية في غياب الراحة النفسية للعمال؟. المراهنة على التحفيز المالي: إذا أضفنا متوسط التعويضات الشهرية الخام عن سنة 2000 إلى الراتب الأساسي الخام لشهر دجنبر من ذات السنة، فإننا نحصل على الأرقام التالية: الأطر العليا 7900 (أي حوالي 8 مليون سنتيم شهريا)، الأطر 5300 (في حدود 5.5ملايين سنتيم)، المشرفون 4500 (4,5 ملايين سنتيم)، التقنيون 3800 (3,8مليون سنتيم(. في الحقيقة، فإن أرقام وجداول تقرير السيد بريسون صادمة. ومنبع الصدمة هو وجه المقارنة مع رواتب اتصالات المغرب. ولاشك أن هذه الأرقام سوف تخلق نفس الارتباك لدى القارئ. ترى هل تقدم لنا اتصالات المغرب، وهي التي همتها الخوصصة والطموح لرقي المراتب العالمية المتقدمة، رواتب مستخدميها على مختلف مراتبهم؟. المراهنة على الخدمات الاجتماعية: بلغت ميزانية الأعمال الاجتماعية 200مليون أورو (ما يزيد عن 200 مليار سنتيم) توزعت على الشكل التالي: الوقاية والتضامن 23 مليون أورو، الأنشطة الرياضية والترفيهية 37 مليون أورو، الأنشطة الثقافية 3 ملايين أورو، المطاعم والأنشطة الاقتصادية 18 مليون أورو، الحضانة والتمدرس 36 مليون أورو، مساعدات للسكن 21 مليون أورو. أما عدد الكشوفات الطبية المنجزة فقد وصل إلى 81 ألفا و40 فحصا. أما اتصالاتنا، فلا زالت تؤجل التسيير المشترك مع ممثلي المستخدمين. ترى هل سيكون للتدبير الثنائي مكان، أم أن لغة التأجيل والمماطلة هي التي ستسود؟؟. لكل اختيار نتيجة في تقديرنا لا يمكن لاتصالات المغرب أن تتدرج في التنافسية العالمية بنهج سياسة لا تحقق الاستقرار الوظيفي للمستخدمين، ولا تسعى لتوفير كل الشروط المادية والمعنوية الضامنة لانخراط العمال في مسلسل البناء والتشييد بشكل جيد. أما حديث التسيير المشترك لجمعية الأعمال الاجتماعية أو لغيرها، فهو ما يندرج أيضا في ثقافة الشفافية والتكامل. فلكل مسار مآل، ولكل اختيار نتيجة. الدكتور سعيد سامي