كانت زفة لا أول لها ولا آخر، تسد بمنظرها عين الشمس... سيارات فارهة من كل الأشكال والألوان تمشي الهوينا وقد تفنن أصحابها في تزيينها بشتى أنواع الديكور... يتقدم موكب العرس تطبيل وتزمير وبقرتان مكتنزتان يقودهما جزار أجير... أعين "المقوسين" تستقبل الزفة بفضول كبير وإطلالات البياري بآهات وزفير... كان الطابور الحديدي يملأ المكان بضجيجه المنظم... أصوات أبواق منسقة كأنها سمفونية أشبعها العازفون تمرينا وعلى متن إحدى أفخم السيارات، في مقعد خلفي تنفرد بالجلوس أم العريس التي أصبح اسمها بالمناسبة ثلاثيا "الحاجة حليمة السرغينية" بحجابها الناصع البياض تلوح بيمينها ردا على تحايا المستقبلين من أهل العروس الذين تسطع على خدودهم وجباههم حمرة الرضا وكيف لا يرضون وقد عقد قران ابنتهم المصونة رجل تقر به العين وتطيب معه العشرة، إنه باختصار: الدكتور أحمد ابن الحاجة حليمة الذي تهفو إلى بحبوحة عيشه كل فتيات الحي... مازل الموكب العازف يواصل سمفونيته... تتوسطه سيارة طويلة مفحمة الزجاج لاتدع لديك مجالا للشك بما تحويه من زينة زائدة إنها المخصصة للعروسين، من خلال شبر الزجاج المفتوح على اليمين تبدو ملامح العروس لاهجة بالثناء لمن صورها... جمال... سمت وحياء يظهر في تورد وجنتيها... كانت تتحدث وتبتسم بالميليكرام وكأنها ملكة جمال متوجة يسعد بوجودها إلى جنبه الدكتور أحمد صاحب الربطة الأنيقة والبدلة البرانية التي تلمع كلما تحرك يمينا وشمالا... تلمع في ذات الوقت لوحة مضيئة على واجهة بناية شاهقة كتب عليها: قاعة الأفراح... هذا يعني نهاية المعزوفة الجماعية وانطلاق المعزوفات الفردية تتوجها زغاريد بعض المدعوات وأهازيج البعض الآخر، تبتهج العروس لذلك... يفرك الدكتور أحمد يديه... يطلب منه النزول من السيارة الطويلة العريضة فيأبى إلا أن تنزل قبله العروس... ذلكم خلق الرجل الذي عاش نصف عمره بفرنسا وبها نال درجة الدكتوراه وفي أجوائها تعلم جملة بروتوكولية تقول "النساء أولا"... تمد يدها خارج السيارة إرضاء لغرور تفرضه اللحظة في انتظار أن تقوم الوصيفات بمساعدتها في النزول... تنزل وسط التصفيقات والزغاريد التي تكاد تحجب السمع والرؤية معا تلتفت ببطء متفقدة عريسها وبانحناءة خفيفة تحاول شد ذراعه لمساعدته على خطو أول خطوة في ساحة الزوجية... وانتبه العريس فجأة... انتبه إلى ملامح يد عروسه الممدوة نحوه... شده شيء ما.. ألح عليه السؤال: لماذا لم ينتبه طيلة فترة الخطوبة لهذا الأمر فيد عروسه لا تكاد تعكس جمالها في شيء!... أناملها خشنة ذكرته توا بيد الحاجة الحانية.. يا إلاهي... حتى صورتها أخذت تتلفع شيئا فشيئا بملامح الوالدة... عيناها... أنفها... شفتاها كل شيء.. ماذا يجري؟!... وكخدعة سينمائية تختلط الصورتان.. تتمازجان بشكل سريع لتسطع في الأخير صورة والدته حليمة (بدون حاجة هذه المرة) وهي تحرك ذراعه برفق... حيث تناهى صوتها إلى مسمعه المثقل بالنعاس: انهض يا أحمد... انهض لملإ "بوديزات" * الماء قبل أن يتسع طابور السقاية!... شعيب لكراكشي *قنينات واسعة من البلاستيك لملأ الماء