نحتاج في قراءة التطورات الأخيرة التي مست البنية الحزبية في المغرب أن نميز بين الديناميات الداخلية التي تعرفها الأحزاب بسبب تدافع الأجيال والنخب والأفكار داخلها، وبين استحقاقات الوثيقة الدستورية واشتراطات قانون الأحزاب. فالفصل السابع من الدستور ينص صراحة على أن «يكون تنظيم الأحزاب وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية»، كما ينص قانون الأحزاب وجوبا في المادة 24 على أن تكون طريقة اختيار مرشحي الحزب لمختلف الاستشارات الانتخابية مبنية على مبادئ ديمقراطية، ويربط النص الدستوري بين الالتزام بالمعايير الديمقراطية في التسيير وبين استفادة الأحزاب من الدعم المالي للدولة، كما تنص المادة 40 من قانون الأحزاب على حرمان الحزب الذي لا يعقد مؤتمره خلال خمس سنوات من الاستفادة من الدعم السنوي الذي تخوله الدولة للأحزاب. فهذا التمييز ضروري، لأن النص الدستوري والنص القانوني لم يكتفيا فقط بالتنصيص على ضرورة أن تشمل القوانين الأساسية للأحزاب السياسية للمساطر الديمقراطية المؤطرة لعملية تسيير الحزب؛ وعلى ضرورة الالتزام بها وفقا للآجال المسطرة، وإنما رتبا على ذلك عقوبات مالية، تجعل الحزب غير الملتزم بهذه المعايير محروما من الدعم المالي للدولة. معنى ذلك، أنه لا بد من قراءة نتائج المؤتمرات الثلاثة التي عقدتها ثلاثة أحزاب سياسية مؤخرا، قراءة متمعنة تأخذ بعين الاعتبار الاشتراطات الدستورية والقانونية، وتحاول أن تفهم مسار الديمقراطية الداخلية التي انخرط فيها كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي مؤخرا. طبعا، من حيث الآلية الشكلية، يمكن أن نسجل أن الأحزاب الثلاثة اتفقت، كل حالة على حدة، على مساطر ديمقراطية لانتخاب الأمين العام أو الكاتب الأول، لكن السؤال الذي يحتاج إلى جواب اليوم، هو العلاقة بين الديمقراطية الداخلية وبين المشروعية السياسية للقيادة الجديدة. في حالة العدالة والتنمية أعيد انتخاب الأستاذ عبد الإله بنكيران بنسبة كبيرة، وخرج الحزب بأعلى درجة من التماسك الحزبي والالتفاف حول شرعية القيادة السياسية، لكن في الحالتين الأخريين، أي حالة حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي، فإن الآلية الديمقراطية لم تفض بالضرورة إلى الرضا بنتائج الانتخابات، إذ برزت عدة مؤشرات في هذه الحالة وتلك، على مستويات من التفكك وعدم القبول بالقيادة الجديدة، بل تحول الغضب إلى عملية طعن في مصداقية الآلية الديمقراطية نفسها. ليس من السهل أن نفسر هذه المفارقة، بين حالة تقود فيها الديمقراطية الداخلية إلى عدم الخلاف حول شرعية القيادة الجديدة، وبين حالة تصير فيها الديمقراطية الداخلية، من حيث كونها آلية حسابية، إحدى أدوات تفكيك البناء الداخلي للحزب، وذلك لسبب بسيط، لأن هناك عوامل ومؤثرات قد تجعل من الحساب الرياضي أفضل طريقة لتغليب نخب على نخب، وتكتيل نخب ضد أخرى، فقط للوصول إلى النتيجة بغض النظر عن تماسك الحزب ومآله. لهذه الاعتبارات، يمكن أن نعتبر، أن مسار الديمقراطية الداخلية الذي انخرطت فيه الأحزاب، حتى وهي في صورتها الحسابية الشكلية، إيجابي لأنه على الأقل يؤسس للقواعد التي لا يمكن بحال القفز عليها في التجارب القادمة، لكن إيجابية هذه المساطر، لا تعني أنها تكفي، لأن هذه العملية، لو بقيت في حدودها الشكلية من غير تحصين قيمي وفكري وسياسي لها، فإنها لن تكون بمنجى عن المؤثرات الخارجية، ولا عن الإرادات التي تبحث عن خيارات جديدة لممارسة التحكم في الأحزاب السياسية. ولذلك، وحتى تؤتي المساطر الديمقراطية ثمرتها المرجوة منها، فإن تأهيل الأحزاب لتقوم بالدور المنوط بها في تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام والمساهمة في التعبير عن إرادتهم، يتطلب بناء أحزاب قوية تتمتع بقدر كبير من التماسك الحزبي، وتحتفظ باستقلالية تامة في قرارها السياسي، وتحظى القيادة الجديدة بقدر من القبول الداخلي الذي يحصن التنظيم من التفكك. نأمل أن تعقب خطوة المساطر الديمقراطية خطوة أخرى أكثر أهمية، تصرف هم الأحزاب إلى بناء القيم السياسية الجامعة وإعادة الاعتبار للمشروعية السياسية، وتأسيس قواعد المصداقية السياسية، والحفاظ على استقلالية القرار السياسي الحزبي، وأخذ المسافات الضرورية عن كل الإرادات التي تبحث عن منافذ للتحكم في المشهد الحزبي.