يعتبر القانون المالي محطة سنوية أساسية في الحياة الديمقراطية للدول ، ويعد مناسبة سنوية لتقييم السياسات العمومية المعتمدة من قبل الحكومة ومتابعة مدى احترام التوجهات العامة للتنمية الاقتصادية وللحكامة المالية ولطرق تدبير الشأن العام. كما يجسد القانون المالي السنوي الإطار القانوني والإجرائي لتنزيل البرنامج الحكومي على المستوى المالي والميزانياتي، وعلى مستوى التوجهات الكبرى والمحاور الرئيسية المتعلقة بمعالجة الاختلالات ودعم النمو الاقتصادي وضمان أكبر قدر من العدالة والتوازن بين الشقين الاقتصادي والاجتماعي. وإذا كان برنامج الحكومة العدالة والتنمية طموحا ويعِد باسترجاع التوازنات المالية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ما أثار الرأي العام حاليا نوع المعارضة الموجودة بالبرلمان، والتي كانت تدبر الشأن العام لمدة تزيد عن 14 سنة وأوصلت البلد إلى مستوى الأزمة غير المسبوقة التي ورثتها الحكومة الحالية. فالاتحاد الاشتراكي ترأس الحكومة لسنوات عديدة وكان يسير وزارة الاقتصاد والمالية لمدة 10 سنوات، والتجمع الوطني للأحرار شارك في جميع الحكومات السابقة وسيَّر وزارة المالية ووزارات أخرى لسنوات عديدة، والأصالة والمعاصرة كان وضعه غريبا بحيث شارك في الحكومة وعارضها وصوت معها في نفس الوقت ويعتبر بالتالي شريكا في المسؤولية عن تدبير الشأن العام. وهنا تبرز الخصوصية بشكل واضح، فأحزاب المعارضة الرئيسية أوصلت المغرب لمرحلة أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة، ولم تكن لها في يوم من الأيام أية رؤية تنموية متكاملة، وكانت ضحية تنازع لوبيات عدة أفقدت القوانين المالية السابقة أي مفعول حقيقي على التشغيل أو النمو الاقتصادي وتوزيع ثماره بشكل عادل على جميع فئات المجتمع.وإذا كانت حكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران تحاول، منذ تنصيبها أواخر يناير من هذه السنة، مسابقة الزمن من اجل استرجاع التوازنات المالية والاقتصادية والاجتماعية، فإن النقاش السياسي حول مشروع القانون المالي لسنة 2013 شهد نوعا من التخبط لدى المعارضة الجديدة التي أوصلت المغرب لهذا المستوى من الكوارث الاقتصادية والمالية.فلا هي تستطيع التخلص من ضعفها السياسي أمام ما تراه من نتائج تدبيرها الكارثي للشأن العام خلال السنوات السابقة، ولا هي قادرة على تحسين صورتها أمام الرأي العام الذي لم يقتنع بعد بمعارضتها العشوائية، بل إن شريحة كبيرة من المواطنين لم تقتنع أصلا بأن هذه المعارضة يمكنها أن تنجح في مهامها بعد فشلها في تدبير شؤونه العامة. وعوض أن تحاول المعارضة الجديدة مراجعة طرق تدبيرها الداخلي، وتضع برنامجا لتأهيل ذاتها كي تصبح قوة اقتراحية، نجدها تركز على معارضة حزب العدالة والتنمية عوض معارضة برامج وقرارات الحكومة، وتعارض وجود هذه الحكومة من أساسه عوض أن تعود إلى الشعب وتحاول إقناعه ببرنامجا، إن كانت تتوفر أصلا على برنامج.وإذا كانت نسبة النمو قد عرفت نقاشا واسعا بخصوص الاختلاف في تقديراته خلال سنة 2012، فإن هذا النقاش لم يكن ذا أساس علمي واقتصادي بقدر ما كان عبارة عن جدل سياسي لم يفهم الرأي العام أصلا دوره في التنمية وفي التشغيل. كما أصبح مشروع القانون المالي نفسه موضوع جدل سياسي بعيد عن هواجس واهتمامات الرأي العام، وقد تجاوز هذا الجدل لدى المعارضة ما هو علمي وموضوعي ليصل إلى اعتبار المشروع فاقدا للهوية والمرجعية، علما أن الحكومة الجديدة وضعت تصورات تقوم على استرجاع التوازنات المالية والاقتصادية، ودعم التماسك الاجتماعي، وترشيد الإنفاق العمومي ووقف نزيف الفساد في تدبير المالية العامة. إن استرجاع التوازنات المالية، ورفع نسبة النمو، ودعم القطاعات الاجتماعية، كانت من أهم الإجراءات التي جاءت بها حكومة ذ. بنكيران خلال تقديمها لمشروع قانون مالية 2013.وقد حاولت بالفعل تجاوز سلبيات التدبير المالي العمومي، ووضعت مقاربة جديدة لرفع مردودية عدد من القطاعات المنتجة، وجاءت بإجراءات تساهم بفعالية في دعم الاستثمار وترشيد التدبير العمومي. كما استطاعت الحكومة ضمان استمرار صندوق التماسك الاجتماعي، بحيث تضمن القانون المالي إجبارية المساهمة فيه من قبل الشركات الكبرى التي تربح أكثر من 20 مليون درهم سنويا واستطاعت حكومة بنكيران النجاح فيما فشل فيه غيرها، ولم تخضع لضغط لوبي الشركات الكبرى ونقابة الباطرونا.وتضمن مشروع القانون لسنة 2013 يدعم المقاولة المغربي باستثمار عمومي يفوق 180 مليار درهم موجه بالأساس للمقاولات الوطنية، وتم اقتراح سعر تحفيزي للضريبة على الشركات الصغرى والمتوسطة في حدود 10% بعدما كان السعر يتحدد سابقا في 15 و30%، ودعم المقاولات المغربية بأزيد من 400 مليون درهم عبر برامج «امتياز» و»مساندة» و»إنماء»، ودعم أفضلية الشركات المغربية على مستوى الصفقات العمومية، إضافة إلى العديد من الإجراءات التي تعتبر رافعة للمقاولة المغربية وداعمة لها.فهذا جزء من الإجراءات الآنية والعاجلة التي أقرتها حكومة بنكيران، واستطاعت تضمينها في مشروع القانون المالي رغم صعوبة الوضع الاقتصادي الذي وصل إله المغرب. وبالمقابل تميزت الحكومة الجديدة بالقدر الكافي من الشجاعة لتصارح الرأي العام بالإكراهات التي ورثتها، ولم تلجأ لإخفاء الحقائق والوقائع عن الشعب المغربي، كما كان يحدث في السابق، عندما كانت الأزمة الخانقة تضرب الاقتصاد العالمي، في حين كان وزير المالية آنذاك يلح بشكل غريب على عدم تأثر المغرب بها، لنجد أنفسنا في نهاية 2011 أمام كارثة عجز الميزانية الذي وصل لمستويات تاريخية، تنذر بإدخال المغرب لا قدر الله في برنامج جديد للتقويم الهيكلي.فبالرجوع للسنوات السابقة التي كانت المعارضة الحالية تشرف فيها على تدبير الشأن العام، فإننا نجد أن فائض الميزانية كان قد بدأ يتلاشى منذ سنة 2009 إلى أن أوصل المغرب أواخر سنة 2011 إلى أزمة مالية خانقة تهدد توازناته الاقتصادية والاجتماعية على مدى السنوات القادمة.وذاك التدبير المالي أفقد المغرب إمكانات هائلة، وانتقلت نتيجة الميزانية العامة للمغرب إلى عجز خطير سنة 2011 يتجاوز 43 مليار درهم وتقارب نسبته 7%، ويحتاج معه المغرب إلى إصلاحات عاجلة على مستوى ترشيد النفقات وإلى إجراءات استراتيجية تهم إصلاح تدبير المالية العمومية وطرق إعداد وتنفيذ السياسات العمومية، وإلى إصلاح ضريبي عميق يتجاوز اختلالات الوضع الحالي، وإلى تدابير استراتيجية تؤدي لتخفيض العجز بشكل تدريجي دون الإضرار بالالتزامات الاجتماعية للدولة.ورغم أن الفرصة كانت سانحة خلال سنتي 2009 و2010 لمباشرة الإصلاحات الضريبية الكبرى، وإصلاح صندوق المقاصة وصناديق التقاعد، ومراجعة طرق تدبير ميزانية الدولة، والتحول إلى التدبير العمومي المبني على الأهداف التعاقدية؛ فإن وزارة المالية لم تبادر حينها لمباشرة هذه الإصلاحات المهيكلة في وقتها الملائم، وبقيت حبيسة الهواجس الانتخابية والحسابات السياسية الضيقة. هذه هي المعارضة الحالية التي تحاول نسيان ماضي تدبيرها السيء للشأن العام، وتحاول تجاهل ما أوصلت إليه المغرب من هشاشة في البنيات الاجتماعية، ومن وضع مزري للإدارة والمرافق العمومية، ومن طبقة وسطى شبه مندثرة، ومالية عمومية تعاني عجزا هيكليا... والتي تعارض حزب العدالة والتنمية وتعارض وجوده في الحكومة عوض أن تحسن صورتها أمام الرأي العام وتراجع طريقة عملها داخل البرلمان.