تتبعت ككل مهتم بالحراك النقابي والسياسي ما قرره وزير العدل والحريات الأستاذ مصطفى الرميد بشأن الاقتطاع من أجور المضربين في قطاع العدل على خلفية الإضرابات المتتالية التي تخوضها شغيلة هذه الوزارة، ولاسيما فئة كتاب الضبط الذين وصل عددهم إلى 2771. ولا أخفي سرا إذا قلت بأنني منذ البداية اعتبر هذا القرار يستند إلى مرجعية قانونية ودينية كان من المفروض أن يعمم على صعيد جميع المرافق الإدارية التي لا يمنع فيها النظام الأساسي للموظفين والأعوان القيام بالإضراب. بل إنه في كم من مرة فكرت في أن أقاضي الدولة في شخص رئيس الحكومة عن امتناعها عن القيام بالاقتطاع لما في ذلك من مشاركة في صرف المال العام بدون وجه حق، وعبث على الخازن العام للمملكة تغاضيه عن صرف الأجور غير المستحقة وصمته عن الآمر بالصرف الذي هو الوزير الذي يتغاضى عند ممارسة الاقتطاع مع وجود نص قانوني يسمح بذلك وكذا ما استقر عليه العمل القضائي المغربي. وفي هذا الإطار أذكر بأن الدستور المغربي الحالي ينص في فصله 156 على أنه تقدم المرافق العمومية الحساب عند تدبيرها للأموال العمومية، طبقا للقوانين الجاري بها العمل، وتخضع في هذا الشأن للمراقبة والتقييم. والمقصود هنا بحسن التدبير أن يكون القطاع الإداري الذي يشرف عليه الوزير وهو رجل سياسة بالطبع في خدمة المصلحة العامة ويسهر على تبرير الاعتمادات المالية المرصودة إليه من طرف الشعب، الذي يمثله أعضاء للسلطة التشريعية. لذلك نقول بأن «أداء الأجر في غياب العمل يعتبر عملا غير مشروع لأنه مخالف للدستور والقوانين» ذلك إن الفصل 36 من الدستور يعاقب صراحة على كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، فأي انحراف هذا سيكون إذا لم يكن غض الطرف عن صرف الأموال العامة على من لا يقوم بأي عمل، بل وفي بعض الأحيان يعمل على عرقلة عمل الغير والمس بقدسية خدمة المرفق العام أو الموارد المالية للدولة، ويساهم في تقليص المداخيل العمومية في الوقت الذي يعيش فيه الاقتصاد الوطني أزمة مالية خانقة نتيجة للأزمة العالمية. هذا، وإنه طبقا للمادة 54 من القانون رقم 99.62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية الصادر تنفيذه الظهير الشريف رقم 124.02.1 بتاريخ 13 يونيو 2002، فإنه يخضع للعقوبة كل آمر بالصرف أو آمر مساعد بالصرف أو مسؤول وكذا كل موظف أو عون يعمل تحت سلطتهم أو لحسابهم، إذا ارتكبوا أثناء مزاولة مهامهم مخالفة النصوص التشريعية والتنظيمية الخاصة بتدبير شؤون الموظفين والأعوان. وقد تكون هذه العقوبة 1000 درهم عن كل مخالفة على ألا تتجاوز مجموع الغرامة عن كل مخالفة أجرة مقترف المخالفة السنوية الصافية التي كان يتقاضاها عند تاريخ ارتكاب المخالفة، غير أن مجموع مبالغ الغرامات المذكورة لا يمكن أن يتجاوز 4 مرات مبلغ الأجرة السنوية السالفة الذكر . وإذا ثبت للمجلس الأعلى للحسابات أن المخالفات المرتكبة تسببت في خسارة للمرفق العمومي، قضي على المعني بالأمر بإرجاع المبالغ المطابقة لفائدة هذا الجهاز من رأسمال وفوائد، وتحسب الفوائد على أساس السعر القانوني ابتداء من تاريخ ارتكاب المخالفة. ولا غرو أن التوقف عن العمل خلال السنوات الأخيرة كبّد ميزانية الدولة الملايير من الدراهم، وحدها سنة 2011 وصلت إلى 56 مليون درهم، بمعدل 46 يوما بدون عمل مقابل أجر كامل داخل عمل وزارة العدل والحريات. والمخالفة هنا تكمن في: أولا: خرق مقتضيات قانون المحاسبة العمومية: إن الأجر مقابل العمل قاعدة معول عليها في قانون المحاسبة العمومية الصادر سنة 1967 كما وقع تعديله، ولا سيما الفصل 41 وما يليه. ثانيا: خرق مرسوم 5 فبراير 1958 المتعلق بمباشرة الموظفين للحق النقابي: أشار هذا المرسوم إلى أن كل توقف عن العمل بصفة مدبرة وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة يمكن المعاقبة عليه علاوة على الضمانات التأديبية ويهم هذا جميع الموظفين. ولم يصدر أي نص تشريعي أو تنظيمي يلغي هذا المرسوم، وأن أي تأويل للدستور في اتجاه الإلغاء الضمني لهذا النص يعتبر تجنيا على الدستور، لأن الإلغاء الضمني في الدستور يكون لمقتضيات جاءت في الدستور السابق ولا تسري على المراسيم والقرارات الإدارية. بعض من العمل القضائي: وعلى هذا الأساس قضت المحكمة الادارية بالرباط بتاريخ 7 فبراير 2006 في الملف 05/107 على أن ثبوت عدم التزام الجهة المضربة بالضوابط المقررة لممارسة حق الإضراب أدى إلى عرقلة سير المرفق العام ولجوء الإدارة إلى تطبيق مقتضيات المرسوم الصادر بتاريخ 10 ماي 2005 باعتبار أن الأجر يؤدى مقابل العمل يجعل قرار الاقتطاع من الراتب قرارا مشروعا. كما قضت محكمة الاستئناف الادارية بالرباط بمقتضى قرارها عدد 59 في الملف رقم 5/07/127 بتاريخ 16 يناير 2008 أنه لئن كان حق الإضراب مضمونا دستوريا ومكرسا في مختلف المواثيق الدولية فانه لا يعني بالضرورة أنه يتم على شكل الانقطاع عن العمل قصد شل حركة المرفق العمومي. ثالثا : عدم إعمال الاجتهاد القضائي: يعد الاجتهاد القضائي مصدرا من مصادر القاعدة القانونية ولا سيما في المجال الإداري، على اعتبار أن القانون الإداري إنما هو اجتهاد قضائي مبوب ومن ثم فقد اعتبر العمل القضائي المغربي أنه أمام عدم إصدار الجهات المختصة للنص التنظيمي للإضراب، فان القاضي الإداري بماله من دور في خلق قواعد قانونية عندما يخلو المجال من التشريع يكون ملزما بوضع ضوابط ومعايير من شأنها أن تضمن لهذا الحق البقاء والحماية من جهة، ومن جهة أخرى عدم التعسف في استعماله لحسن سير المرفق العام بانتظام واضطراد (حكم المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 7 فبراير 2006 منشور بمجلة «عدالة جوست» عدد 7، يناير 2011 ص 50). رابعا: خرق الدستور: الدستور المغربي يجعل جميع المواطنين سواء أمام القانون إلا أن الملاحظ أنه في حالة الإضراب، تقوم وزارة بالاقتطاع من أجور المضربين، كما هو الشأن بالنسبة للتربية الوطنية أو الصحة، في الوقت الذي لم تقدم وزارة العدل والحريات على ذلك، مع ما يمكن اعتباره خرقا للدستور في شقه المتعلق بالمساواة، فإذا كان الإضراب غير قانوني، فهو بالنسبة لجميع المرافق العمومية، أما أن تعمد الحكومة إلى ممارسة الانتقائية، فذلك غير مقبول وخرق صريح للدستور. لذلك نرى ما أقدم عليه وزير العدل والحريات قرار جريء وقانوني، وإن كانت له انعكاسات سياسية سلبية، والمطلوب تلافيا لكل هذه التوترات، إصدار قانون تنظيمي ينظم شروط وشكليات الإضراب في القطاع العام خاصة في الوزارات الجبائية كالمالية والعدل والصحة، ويجب أن يكون هذا ضمن الأولويات الحكومية الحالية اتقاء لما قد ينجم عن الإضرابات السياسية من آثار سلبية على المالية العامة والاستقرار وحسن تسيير المرفق العام خدمة للمواطنين عامة والمرتفقين خاصة.