ظهر مصطلح التضخم السياسي مع انتقال بعض الحركات الإسلامية للعمل السياسي الحزبي، وخاصة ما صاحب ذلك من توجه عدد مقدر من الأطر التربوية والدعوية، للعمل في المؤسسات والهيئات الحزبية. وقد كان المبتغى من هذا المصطلح التحذير من استنزاف طاقات العمل الدعوي بفعل الانجذاب ببريق العمل السياسي، والمطالبة بتحصين العمل الدعوي من أن يصبح رهينة لإكراهات العمل السياسي وتحدياته وضغوطه، وهي قراءة لا شك كانت لها مبرراتها وأسبابها التي انطلقت أساسا من الخوف على مشروع العمل الدعوي في شموليته. لكن اليوم وبعد التحولات والتغيرات التي حصلت في العالم العربي، وبعد أن انتقلت بعض هذه الحركات المشاركة من مواقع المعارضة إلى مواقع تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، بدأنا نلاحظ تراجعا ملحوظا في الأصوات التي كانت ترفع شعار التضخم السياسي، بل وشهدنا مراجعات عملية لمواقف التحفظ من العمل السياسي والعمل الجماعي المنظم. ويظهر هذا الأمر بجلاء في الحالات الآتية: الحالة الأولى وهي حالة «الدعاة الجدد «الذين كان يحتج بنجاحهم في وجه التنظيمات المشاركة في العمل السياسي، على اعتبار أنهم إنما أصبحوا أكثر استقطابا للناس وأكثر تأثيرا بفعل تركيزهم على العمل الدعوي وأخذهم مسافة واضحة من التنظيمات السياسية، فإذا بنا نجد أحد أبرز رموزهم، الأستاذ عمرو خالد الذي كان حريصا على تفادى التصنيف السياسي، قد انتهى به المطاف اليوم إلى تأسيس حزب «مصر المستقبل» بعد اقتناعه بضرورة العمل السياسي. الحالة الثانية تتمثل في الاتجاه السلفي الذي كان يعتبر العمل التنظيمي في إطار جماعات أو حركات أو أحزاب مما يدخل في باب البدعة، ها نحن نراه اليوم وقد تجاوز هذه التصورات والأحكام المسبقة وانطلق رواده بكل حماس وفعالية نحو تأسيس أحزاب سياسية، مثل ما حصل في مصر. الحالة الثالثة تتمثل في الجماعات النورسية في تركيا ، والتي كانت تقصر جهودها على العمل التربوي والدعوي واعتبرت في حينها النموذج المطلوب من الحركات الإسلامية المشاركة أن تحذو حذوه وتبتعد عن العمل الحزبي والسياسي المباشر أو تخفف منه. ها نحن نجدها حاضرة بقوة في محطات سياسية بامتياز وتدعو أعضاءها للمشاركة المكثفة في الاستفتاء على الدستور، أو في التصويت في الانتخابات التشريعية لفائدة حزب العدالة والتنمية التركي، بل أصبحنا في مستوى آخر نجد بعضا منها حريصا على المشاركة في حكومات العدالة والتنمية. أما في المغرب فإنه فضلا عن حركة التوحيد والإصلاح التي اهتمت بهذا الشأن مبكرا وتربطها شراكة استراتيجية مع حزب العدالة والتنمية، فإننا نجد حركات إسلامية أخرى إما تحولت بمجموعها إلى أحزاب سياسية مثل البديل الحضاري أو وجهت جل جهودها لذلك كالحركة من أجل الأمة. كما أن جماعة العدل والإحسان ورغم عدم انخراطها في العمل الحزبي المباشر، فإن المكانة المهمة التي خصصتها للدائرة السياسية في هيكلتها تؤكد على أهمية العمل السياسي ومكانته عند الجماعة. والاتجاه السلفي بالمغرب والذي كان إلى عهد قريب لا يؤمن بالعمل السياسي ولا بالعمل الحزبي، فقد رأينا كيف شارك بعض منه بفعالية سواء في الاستفتاء على الدستور أو في الانتخابات التشريعية ، كما رأينا مبادرات للانتقال نحو العمل التنظيمي سواء عبر جمعيات أو تنسيقيات، بل وأكثر من ذلك كيف بدأ النقاش يجري في صفوف بعض هذا الاتجاه حول فكرة تأسيس حزب سياسي. وفضلا عن كل هؤلاء نجد في المغرب أن بعض الذين رفعوا في مراحل سابقة شعار التضخم السياسي في وجه المشاركة السياسية ، لا يتحفظون اليوم من الدفع بعدد من أطرهم للتموقع في بعض المناصب والمواقع السياسية بعدما كان اقتصارهم على العمل في إطار المؤسسات الدعوية والعلمية. بناء على كل ما سبق هل يمكن القول إن مصطلح التضخم السياسي كان وليد مرحلة غلب عليها هاجس الخوف على المشروع الإسلامي والحرص على تحصينه من طغيان ما هو سياسي على ما هو دعوي، وأن هذا المصطلح انتهى بانتهاء هذه المرحلة؟ أم أن الواقع الحالي هو الذي ضغط في اتجاه استدراج كل الفاعلين الإسلاميين للدخول بشكل أو بآخر في العمل السياسي، وبالتالي فإن الأمر يوجب اليقظة والتنبيه والعودة إلى إحياء هذا المصطلح والدفاع عنه أيضا في هذه المرحلة؟ والجواب هو أن أغلب الإسلاميين، أو جلهم، أصبح يعتبر العمل السياسي ضرورة وليس تضخما، وأن المطلوب ليس الابتعاد عن العمل السياسي أو تحجيمه، وإنما العمل على « تضخيم « المداخل الأخرى للإصلاح ( العمل الدعوي والتربوي، العمل العلمي والفكري ، العمل المدني ...) وتقويتها لتكون مواكبة لما تحقق من خلال العمل السياسي، في إطار من التكامل والتعاون.