قال الدكتور يوسف مازي عضو المجلس العلمي لبني ملال أن عددا كثيرا من المظاهر الإيجابية يفتقدها المغاربة بعد رمضان، والسبب كما يرى يرجع أساسا إلى تكريس تلك الصورة النمطية الموروثة عن رمضان من أنه شهر العبادة والقرآن والقيام والصيام ...وإسقاطات خاطئة عن تمثلات لليلة القدر، حتى يتصور المسلم المغربي أن غير رمضان لا يصلح إلى ما صلح له رمضان. ودعا مازي المسلمين استصحاب ولو ما تيسر له من جنس كل عمل صالح كان يقوم به في رمضان، دون أن يفرط في معلم واحد من معالم التربية الرمضانية. ● قارب شهر الصيام على الانتهاء، في نظركم ما هي أهم القيم التي ينبغي أن نكون قد تعلمناها خلال هذا الشهر الكريم؟ ● ● الحمد لله مبلغ الراجي فوق مأموله ومعطي السائل زيادة على مسؤوله، أحمد سبحانه على نيل الهدى وحصوله وأقر بوحدانيته إقرار عارف بالدليل وأصوله. وأصلي وأسلم على نبينا محمد عبده ورسوله وعلى جميع آله وصحبه الذين حازوا قصب السبق في فروع الدين وأصوله، فصاموا وقاموا وتلوا فكانوا حقا من اتقى عباده، أرقى عباده. أما بعد فالحديث عن قيم رمضان، بل سميها مقاصده والتي أجمل الله الحديث عنها بقوله جل في علاه: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" فجعل الله سبحانه وتعالى الغاية العظمى والحكمة الأسمى من الصيام: التقوى. هذه اليقظة النفسية المستمرة في حياة المسلم، ومطيته إلى ربه يمتطيها ليطير مخففا من كل الأثقال. علل الله بها فرض الصيام على غير عادة القرآن في كثير من العبادات الغير المعللة . فالصيام في كتاب الله جاء معللا وعلته تحصيل التقوى بدليل لعل – التي بمعنى كي - والتي أفادت التعليل. وبدليل وقوع العلة بعد الأمر مما أكد العلة المذكورة . واللافت للنظر هو مجيء العلة مطلقة، فلم يقل الله تعالى لعلكم تتقون كذا أو كذا. لأن الصائم يتقي بصيامه: المطعومات، والمشروبات، وكل المشتهيات، وسائر المحرمات، ومختلف المعاصي...فالمعنى إذن: تتقون أي شيء عموما. ومنه فإن الصائم لله حقا هو الذي حصل التقوى من كل شيء، فترك لله طعامه وشرابه وشهواته من الدنيا كلها يرجو بذلك ما عند الله من عوض على ذلك في الجنة. وفي حديث أبي قتادة و أبي الدهماء: " أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا هل سمعت من رسول الله شيئا قال نعم سمعته يقول: ( إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه ) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد برقم 10/299 بأسانيد وقال ورجاله رجال الصحيح. فالحديث عن القيم التي ينبغي أن نكون قد تعلمناها خلال هذا الشهر الكريم لا ينبغي أن يخرج عن أم القيم وأصلها التقوى مع ضرورة التأكيد على مجيئها مطلقة غير مقيدة لتكون شاملة لكل تهذيب وتأديب وتشذيب للنفس البشرية التي جاء الصيام ليغرس فيها أبعادا. ● كيف ترى أحوال المغاربة بعد شهر الصيام؟ ● ● حضرت إحدى الملتقيات الدولية وأعجبتني بديهة أحد إخوتي المغاربة وكان قد تدخل بعد أخ موريتاني الذي قال جئتكم من بلد المليون شاعر. وتبعه أحد الإخوة الجزائريين الذي قال جئتكم من بلد المليون شهيد. فجاء الدور على هذا الأخ ليقول وأنا جئتكم من بلد المليون كريم . فحقيقة أحوال المغاربة في رمضان من إطعام للفقراء والمساكين وحملات وتبرعات جمعوية وتضامن في وجبات الافطار والسحور... تجسد فعلا حقيقة كرم المغاربة واقتدائهم بسنة الحبيب المصطفى الذي كان " أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاهُ في كل ليلةٍ من رمضانَ فيدارسُه القرآنَ، فلرسولُ اللهِ أجودُ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ". من حديث عبدالله بن عباس في صحيح البخاري تحت رقم: 6 وكل من عاش أو عايش المغاربة يشهد بهذه الحقيقة. وهذا في حد ذاته إيجابي بل ويجب استثماره خارج رمضان وتوظيفه كقيمة مجتمعية للتكافل والتعاون على البر والتقوى... كما أن تجند شباب لخدمة المصلين وتهيئة للمصليات وإشراف على الآلات والصوتيات لمظهر إيجابي يوحي باستعداد المجتمع للقيم الإيجابية كل ما أتيحت له الفرصة لذلك ... ولهذا تبقى المسؤولية على المربين والدعاة والعلماء و...لاستثمار هذا المظاهر وتوظيفها فيما يعود على الأمة بالخير.. أما بعد رمضان فللأسف كثيرة هي المظاهر الإيجابية التي نفتقدها ولعل السبب والله تعالى أعلم تكريس تلك الصورة النمطية الموروثة عن رمضان من أنه شهر العبادة والقرآن والقيام والصيام ...وإسقاطات خاطئة عن تمثلات لليلة القدر، حتى يتصور المسلم المغربي أن غير رمضان لا يصلح إلى ما صلح له رمضان. وأنه يكفي شد المئزر في رمضان وتسريحه في غيره من الشهور. ● كيف نثبت بعد رمضان على ما كنا عليه في رمضان؟ ●● للإجابة عن هذا السؤال لابد أن نبين حقيقة رمضان! فرمضان أيها الأخت الفاضلة يدخل في أزمنة القربات ومواسم الخيرات التي جعلها الله تعالى لتسرع بالإنسان في سيره إلى ربه . وتعجل في قربه من رضاه "لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ" سورة المدثر . فرمضان يعتبر فرصة حقيقية لإطالة العمر العرضي، وهذا معناه في قول الله تعالى " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ" سورة القدر. فليلة واحدة من رمضان جعلها الله خيرا من ثلاث وثمانين سنة وأشهر عبادة . وبالتالي يستطيع المسلم أن يمدد العمر الفعلي للعبادة ليلقى الله بأجل الخلف وعمر السلف. ومعنى هذا هو ما جاء مسنداً ومرسلاً من وجه من الوجوه في الموطأ " إن رسول الله أري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، خير من ألف شهر" رواه مالك في الموطأ وأخرجه ابن عبدالبر في الاستذكار 3/299 . ولكن الناس اليوم وقفوا عند مثل هذه البشائر الرحمانية والأوسمة الربانية التي جعلها الله بمثابة الاستثناء من الأصل أي أن الأصل هو "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" سورة الذاريات. والاستثناء هو "وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ " سورة القدر . وبالتالي فالمسلم يعبد الله عمره كله، ويستعين بمثل مواسم رمضان ليزيد من عمره الفعلي للعبادة . وهذا من أسرار إطلاق قول الله تعالى : "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" و "وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" من سورة البقرة، ليعم مشمول الزمن أيضا . فهذه هي الفلسفة التي يريد القرآن أن يتربى عليها الصائمون، وليس العكس. ليس ما أصبحنا اليوم نراه من غفلة الغافلين ونوم النائمين وانتظار شهر الصيام لله رب العامين، ليقوم الناس بما لم يكونوا من أهله في غير شهر رمضان. وإنما السالك لله يصوم ويقوم ويصلي ويتلو ويجود ...طيلة العام وفي محطة رمضان يجدد العهد مع هذا كله ويتزود بطاقات جهده، كأنما نشط من عقال... فرمضان محطة للتزود وليس فقط للتعبد، والعام كله رمضان بأعماله، ورمضان أعوام كله ببركاته. ولله در القائل: وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي هذه هي النظرة الأولى التي لو صُححت في أذهان الناس اليوم لتمكنوا من الثبات على ما كان منهم في رمضان من أعمال صالحة. وإلا فما جواب ختم المرء للقرآن في رمضان أكثر من مرة وعدم التوفق في ذلك في العام ولو مرة. وما سر صبر الناس على الجوع والعطش والسهر في القيام والاعتكاف...في رمضان، وفشلهم في ذلك كله في غيره ... لا أجد لذلك جوابا إلا ما كان قبل من تلك الصورة المنطبعة في أذهاننا منذ مراحل الطفولة الأولى صورة الكبير التارك للصلاة إلا في رمضان، والغافل عن الصيام إلا في رمضان، والناسي للقيام إلا في رمضان...وهكذا. ولو غيرنا هذه الصورة المشوهة والنظرة السلبية عن رمضان لكنا من الثابتين على ما كنا عليه في رمضان بعد رمضان. ولاستطعنا أن نجعل العام كله رمضان، بل الأعوام كلها رمضان، بله العمر كله رمضان ...وكيف لا وما كنا عليه في رمضان نحن مطالبون به طيلة العام ... إذن جواب سؤالك أيتها الفاضلة: نستطيع أن نثبت بعد رمضان على ما كنا عليه في رمضان؟ بتصحيح هذه النظرة الخاطئة المتمثلة في الأذهان عن رمضان. تلك النظرة التي جعلت من رمضان كالزي الذي يلبس أول الشهر ثم يخلع آخره، فتنتهي قصته سريعا وكأننا حصلنا صك القبول والعتق من النيران.. وهذا التصحيح هو نقطة البداية إن شاء الله ... * هل هناك وسائل عملية أو برنامج عملي يساعد المرء على اصطحاب قيم رمضان وأخلاقه في باقي أيام السنة؟ * ما فهمته من سؤالك أن القيم هنا ليس القيم المقصودة في السؤال الأول. وربما تقصدين بحسب سياق ورود الأسئلة تلك الطاعات والباقيات الصالحات التي تصالح معها المسلم في رمضان بعد طول خصام طيلة العام من ختم وتدبر للقرآن، وعمارة للمساجد، والانقطاع لله، والجود والعطاء، وحلق العلم والوعظ، والحرص على إدراك تكبيرة الإحرام، وصلة الأرحام... هذا البرنامج التربوي الفريد من نوعه الذي يتناول مواده كلها المرء خلال شهر بكامله فيتدرب عليها من أجل أن يصطحبها معه في سيره وكدحه إلى الله "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" الإنشقاق. والحديث دوما عن الوسائل العملية أو برنامج عملي لأي عمل لا يخرج عن اجتهادات وتجارب شخصية قد تصلح لشخص دون شخص. ولهذا لا أرى خيرا من معالم البرنامج العملي الذي تدربنا عليه في رمضان نفسه وسيلة لاصطحاب مثل هذا الذي ذكر. وإن لم تتهيأ الظروف في غير رمضان بمثل ما تهيأت به فيه: فما لا يدرك كله لا يترك جله. وعلى المسلم أن يستصحب ولو ما تيسر له من جنس كل عمل صالح كان يقوم به في رمضان، دون أن يفرط في معلم واحد من معالم التربية الرمضانية. لأن ما تربى عليه المرء في رمضان من كل تلك المعالم أكيد أن لكل معلم دوره في تكوين شخصية المسلم. وعليه فالبرنامج العملي هو العمل ذاته بما كان عليه في رمضان ولو بأقل جرعة، المهم أن لا تضيع معالم طريق رمضان، وإن ضاعت لفترة وجيزة فتلزم العودة السريعة. ● بعد رمضان يتبعه صيام ست من شوال، ما هو الأجر المترتب على صيام هذه الأيام؟ ●● الحديث عن صيام الست من شوال ينبغي أن يكون من زوايا: أولها تصحيح القول بكراهيتها في المذهب المالكي عندنا، وهذا خطأ لأن الإمام مالك رحمه الله علل الكراهة بخشية اعتقادها من رمضان فتتغير عدة رمضان إلى خمسة وثلاثين يوما بدل تسعة وعشرين، أو ستة وثلاثين يوما بدل ثلاثين، وهذا تغيير في خلق الله. والعلة تدور مع الحكم وجودا وعدما . وثانيها الحكمة اللطيفة من تشريعها وهي استشعار الصيام لله تعالى طيلة العام، عن طريق العملية الحسابية التي فيها: أن الحسنة بعشر أمثالها، فيكون رمضان بمثابة ثلاث مائة يوم أو أقل بعشرة، والستة من شوال بستين، فتشمل العام . وفي سنن النسائي " من صام رمضان وصام ستة أيام من شوال كان كصيام الدهر" من حديث أبي أيوب الأنصاري في السنن الكبرى الرقم:2879 وثالثها ذلك التدرج في الانتقال من الإمساك إلى عادة الأكل والشرب اليومي الاعتيادي في غير رمضان. تجنبا لأي تغير في النظام اليومي للمسلم بما قد يحدث له ضررا بصحته.