فالعالمية لا تسعى فيها خصوصية ما إلى خوض حرب من أجل السيطرة العالمية بفتح جبهة المواجهة الثقافية من أجل التبخيس من قيمة الثقافات المنافسة، و تسويد صفحتها لدفع النخب إلى التنصل منها، بل إنها تعيد النظر في علاقة النخبة نفسها بباقي مكونات المجتمع في اتجاه مزيد من التصاق النخبة بهموم و انتظارات القاعدة خصوصا بعد الربيع العربي الذي أظهر تأخرا لهذه النخبة عن اتخاذ المواقف الحاسمة من القضايا التي تشغل بال العامة و منها قضية الهوية. وهي لا تسعى إلى التعميم بقدرما تبحث عن التكامل التعارفي الذي له وسيلة وحيدة هي التفاعل والتواصل عوض خطاب العزلة و خيار الفتنة و التطرف باسم الهوية و الخصوصية و التعددية و الاختلاف والأصالة و الحداثة و العصرنة . نعم نحن نقصد هذه المفاهيم بحمولاتها السلبية التي تغذي نعرات التمزق و التشتت و التشرذم و التقوقع و الانسلاخ و التطرف و العرقية؛ فمضامين العالمية ينبغي أن لا تعكس خصوصية الغالب أو خصوصية المغلوب، بل خصوصية الإنسان بأن ترفع من شأن إنسانيته أي عقلانيته و قيمه و علاقاته الاجتماعية،و انفتاحه الإنساني، دون أن تسعى إلى سلخ الشعوب من خصوصياتها و لا إلى إنتاج نموذج ثقافي عالمي موحد يقوم بمحاولة تكييف جوهر تلك الهويات الصلب أو الثوابت التي تتغير الهوية ذاتها، أو تفقد بتغييرها. فإذا كانت أبسط حقوق الإنسان تتمثل في حق التميز عن الآخر من حيث هويته بمختلف أبعادها و أشكالها الرمزية، فإن العالمية هي التي تضمن أن يتحول العالم إلى قرية كونية فعلا، تحفظ فيها الكرامة الإنسانية في إطار تفاعل مفتوح دون هيمنة بل بانصهار و تفاعل و تكامل المشترك الإنساني، و بأن تقدم مضامين جديدة لمفاهيم الحداثة و العقلانية والحوار و القيم «تعكس خصوصيات و مرجعيات أخرى تعدل من غلوائها التقني و المادي و تحد من تطرفه في اتجاه العبث و اللامعنى» مع احترام حضارات المجتمعات العالمية دون محاولة إلغاء هوية ما بالقضاء على خصوصياتها بشكل من الأشكال. فإذا رامت عكس ذلك تحولت إلى عولمة تحمل نزعة هيمنية حتى و لو رفع دعاتها شعار الإنسانية. يؤكد باحثون كثر أن «الغرب الرأسمالي يعاني أزمة حداثة، فمن الطوباوية التلويح بأطروحة سقوط الغرب وعودة الإسلام، أو سهولة الاختراق الثقافي لنظام العولمة». فلا ينبغي التعويل على ضعف الآخر بل على قوتنا الذاتية، لأن الكلام عن كونية الإسلام ، دون توضيح المفاهيم و خصوصا الموقف من الخصوصيات قد يبرر الحكم على عالمية الإسلام بكونها «نزعة في رفض الآخر، وفق مطلق ديني أو ميتافيزيقي ما زال يحكم الكثير من التيارات الفكرية الأصالوية و التي لا تعير الاهتمام لمطلب العقلانية و التحديث الجذري و مفهوم النسبية الثقافية و الاختلاف داخل الثقافة الواحدة» و رغم أن هذا الحديث أكثر إديولوجية في حديثه «عن الإرث الديني و الحضاري و الثقافي الذي لا يرى فيه إلا السلبيات، بل نجده يحرف مفهوم العالمية الإيجابي بهذا النوع من التحليل الإديولوجي،استنادا إلى سعيد شبار،فإنه ينبه إلى أحد المحاذير الأساسية التي ينبغي تنبه دعاة العالمية الإسلامية إليه، وهو عدم الوقوع فيما وقعت فيه العولمة من محاولة نفي كل ذات سوى الذات التي تهيمن مع فرض تصورها بشتى وسائل الإكراه و الهيمنة على العالم، مع توظيف كل مفاهيم و آليات الحداثة لتأكيد هذا التوجه، فيظل بذلك كل ما تبشر به بعيدا عن الذوات الأخرى. من خلال الدراسة المفهومية في بداية البحث اتضح لنا أن للعالمية الإسلامية مفهوما متميزا ما دام مرتبطا بالإسلام دينا سماويا، يعكس رغبة الخالق التي من أجلها أنزل الدين.فكما أوضحنا أن العالم غير مرتبط بزمن ولامكان محدد ولا مخاطب مخصوص ، فإن الدعوة الإسلامية كانت في دعوتها عالمية ممتدة تتعدى حدود الزمان والمكان،فقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات56) وقوله تعالى : } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ { (الأنبياء107) يبين أن الإسلام ليس دعوة خاصة بعرق دون عرق أو مكان دون مكان ، أو زمان دون زمان ، بل إن شموليته و عالميته مستمدة من طبيعته كدعوة دينية، ولا حياة أو مستقبل للإسلام إلا بان يكون عالميا. وهذا ما عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه، في إيوان رستم حيث قال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) . إنه توجه منذ بداية الدعوة لعالمية قيم العدل و الحرية و الوحدة التي تنشدها الإنسانية جميعها.ولكن العبودية أصناف شتى «فعالمية الإسلام تتفق مع الرغبة في تحرير الإنسان من العبودية الجديدة للمادة و الاستهلاك، كما أسهم في تحريره من العبودية القديمة؛ لقد قيل في بدايات الحداثة «إن الحاجة أم الاختراع»آما اليوم فان الاختراع بات يخلق الحاجة،و هي حاجات لا تنتهي إلى منتجات الحضارة المادية لأن الإنسان تحول من استعباده للطبيعة و قتله للإله إلى عبد للمادة و قيمها الصناعية الجديدة، لذلك تلتقي الدعوة إلى عالمية إسلامية مع حنين الإنسان الغربي، نفسه ،إلى القيم السامية عبر عنه رش بقوله: «من دون الدين لا يمكن أن تكون هناك فضيلة ، و من دون الفضيلة لا يمكن أن تكون هناك حرية، و الحرية هي هدف كل الجمهوريات و حياتها». و سادت قيم السوق ،فتحول عن الرغبة في تحقيق الرفاه،إلى طحن الإنسان في ماكينة الإنتاج و سوء التوزيع. والعالمية اليوم تقدم إجابات لأمثال حركة «أغلقوا وول ستريت» ،و كأن تورغو ينطق بلسان حالهم :»إن الفقراء لهم حقوق لا جدال فيها في فائض الثروة» فانظر كيف يمكن أن يحقق المذهب الاقتصادي الإسلامي التوازن بين حرية التملك ونظام التكافل الاجتماعي بالزكاة و غيرها مما يضمن القضاء على الأزمات الاقتصادية التي تفتك بالإنسان اليوم وما الانفتاح الواسع اليوم على الأبناك الإسلامية إلا نموذج بسيط لما يمكن أن تقدمه عالمية الإسلام من إجابات.وهذه نماذج فقط و إلا فإن المقام لا يتسع لرصد دقيق للحاجات الإنسانية التي تملك عالمية الإسلام الإجابات الشافية عنها.